في خطوة مبتكرة تعكس رؤية جديدة لدمج التعليم الديني مع مجالات العمل السياحي، انطلقت بالأقصر مبادرة غير مسبوقة يشارك فيها طلاب وطالبات جامعة الأزهر في برامج تدريبية متكاملة لتنشيط السياحة. المبادرة، التي جاءت بموافقة فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر أحمد الطيب، تهدف إلى إعداد جيل مؤهل يمتلك المهارات اللغوية والمعرفية اللازمة لخدمة القطاع السياحي، مع توفير فرص عمل حقيقية تساهم في القضاء على البطالة وتحويل الأقصر إلى مصدر رئيسي للعمالة المدربة في مصر. ◄ فكرة ولدت من حوار بسيط بدأت الفكرة، كما يروي الخبير السياحي محمد عثمان رئيس لجنة السياحة الثقافية بمحافظة الأقصر، في حديثه ل«بوابة أخبار اليوم»، من تساؤل بسيط: «نحن ندرب مختلف فئات المجتمع للعمل في القطاع السياحي، فلماذا لا ندرب أيضاً طلاب الأزهر؟». وبمجرد طرح الفكرة على فضيلة الإمام الأكبر، جاء الرد بالموافقة الفورية، لتبدأ مرحلة التنفيذ على أرض الواقع. تم اختيار 30 شاباً و30 فتاة من طلاب الأزهر بالأقصر، ليكونوا نواة هذه المبادرة، وقد وضعت لجنة السياحة الثقافية خطة تدريبية شاملة تغطي كل ما يتعلق بالمجال السياحي، من مهارات التعامل مع الزائرين، إلى التعرف على معالم المدينة وتاريخها العريق. ◄ برنامج تدريبي شامل لم تقتصر الدورات على المعلومات النظرية، بل شملت تدريباً عملياً مكثفاً. البنات حصلن على برامج تؤهلهن للعمل في شركات السياحة والمكاتب السياحية، بينما تم إعداد الشباب للعمل في المطاعم والفنادق والإرشاد السياحي. ولإثراء التجربة، تم تنظيم رحلات ميدانية كل عشرة أيام، لتمكين المشاركين من الاحتكاك المباشر بالعمل السياحي والتعرف على احتياجات السوق. هذه التجربة الميدانية سمحت للطلاب بفهم واقع السياحة في الأقصر، وتطبيق ما تعلموه من بروتوكولات وضيافة، فضلاً عن مهارات لغة الجسد والتواصل مع السائحين. ◄ التزام وانضباط مدهش واحدة من أكثر النقاط التي أثارت إعجاب القائمين على المبادرة كانت الالتزام الكامل من الطلاب. فلم يتغيب أي مشارك عن المحاضرات أو التدريبات، مما يعكس حماسهم ورغبتهم الحقيقية في التعلم والانخراط في هذا المجال. هذا الالتزام شجع اللجنة على توفير فرص عمل فعلية للمشاركين خلال الفترة الصيفية؛ حيث ستعمل الفتيات في المكاتب السياحية، بينما سيلتحق الشباب بالفنادق والمطاعم ومكاتب الإرشاد السياحي، مع حصولهم على أجر شهري جيد. ◄ دعم كامل للفكرة محمد عثمان يؤكد أن لجنة السياحة الثقافية تدعم الفكرة بكل قوة، لأنها لا تقتصر على تدريب الشباب فحسب، بل تمنح القطاع السياحي دفعة قوية بكوادر أكثر التزاماً وحماساً. كما يرى أن مشاركة طلاب الأزهر تحمل رسالة إيجابية، تعكس قدرة المؤسسات التعليمية الدينية على الانفتاح على مجالات العمل الحديثة، مع الحفاظ على القيم والأخلاق. ◄ أبعاد اقتصادية أوسع لم تتوقف طموحات المبادرة عند حدود الأقصر، بل امتدت لتشمل رؤية أوسع. محمد عثمان كشف أن محافظات سياحية كالغردقة وشرم الشيخ ومرسى علم بدأت تطلب عمالة من الأقصر، مما دفع إلى توقيع بروتوكول تعاون مع جامعة الأقصر لتدريب وتأهيل كوادر قادرة على العمل داخل المحافظة وخارجها. هذا البروتوكول لا يستهدف الطلبة فقط، بل يشمل أيضاً الراغبين في تغيير مجالات عملهم. يتم تدريبهم على الوظائف المطلوبة، شرط امتلاكهم لمستوى مقبول من اللغة الإنجليزية، ليصبحوا جاهزين للانخراط في سوق العمل فور انتهاء البرنامج. ◄ الأقصر بلا بطالة الهدف الأكبر، كما يؤكد عثمان، هو أن تصبح الأقصر محافظة بلا عاطلين عن العمل، بل مصدّراً للعمالة الماهرة لبقية المحافظات السياحية. وبعد انتهاء فترة التدريب، يحصل المتدربون على عقود عمل لمدة عام، مما يضمن لهم دخلاً ثابتاً وخبرة عملية. هذه المبادرة تمثل خطوة عملية لإحياء السياحة الثقافية في الأقصر، التي تعتمد على العنصر البشري كعامل أساسي في نجاحها. فالسائح لا يبحث فقط عن مشاهدة المعالم الأثرية، بل عن تجربة متكاملة تشمل حسن الاستقبال، والمعلومات الدقيقة، والخدمة الراقية. اقرأ أيضا| خبير: «المتحف المصري الكبير» تحفة معمارية تعيد رسم ملامح السياحة الثقافية بفضل التدريب الذي يجمع بين المعرفة التاريخية والمهارات العملية، سيكون طلاب الأزهر قادرين على تقديم تجربة سياحية متميزة، مما يعزز من سمعة الأقصر كمقصد عالمي للسياحة الثقافية. نجاح هذه المبادرة يفتح الباب أمام تطبيقها في محافظات أخرى، خاصة تلك التي تتمتع بمقومات سياحية قوية. ويمكن للأزهر أن يلعب دوراً محورياً في هذا المجال، عبر دمج برامجه التعليمية مع فرص التدريب العملي في مختلف القطاعات الاقتصادية، وعلى رأسها السياحة. ◄ رؤية مستقبلية يرى محمد عثمان أن هذه الخطوة ليست مجرد مشروع مؤقت، بل نواة لبرنامج مستدام يربط بين التعليم وسوق العمل، ويعيد تعريف دور المؤسسات التعليمية الدينية في خدمة المجتمع والاقتصاد الوطني. كما يؤكد أن استمرار الدعم من الجهات الرسمية، وتوسيع الشراكات مع القطاع الخاص، سيجعل من الأقصر مركزاً لتصدير العمالة الماهرة لكل أنحاء مصر وربما خارجها. مبادرة تدريب طلاب الأزهر في الأقصر للعمل في القطاع السياحي ليست مجرد فكرة جميلة، بل مشروع متكامل يجمع بين الفكر والرؤية والتنفيذ. إنها نموذج للتعاون بين المؤسسات التعليمية والدينية والقطاع السياحي، ودرس عملي في كيفية تحويل الأفكار إلى إنجازات على أرض الواقع. هذه التجربة تؤكد أن الاستثمار في الإنسان هو الطريق الأمثل لتنمية السياحة، وأن الأقصر قادرة على أن تكون ليس فقط متحفاً مفتوحاً للحضارة، بل مصنعاً للكوادر التي تحمل رسالة مصر الحضارية إلى العالم.