هل ممكن أن يتحول الحب الجارف إلى كراهية شديدة في غمضة عين؟، هل من السهولة أن تجف كل أنهار الحنان والعطف في لحظة وتتحول إلى أودية جافة خالية من كل المشاعر والأحاسيس؟.. هذا ما حدث مع أب لم يحمل لابنته سوى كل المشاعر الطيبة لأب حنون مثل سائر الآباء.. ولم يتمنى لها سوى الخير وأن يراها بفستان الزفاف الأبيض تزف إلى عريسها، ولكن القدر رسم سيناريو بعيدا تمامًا عن هذه الصورة النمطية وكانت كلمة النهاية في مشوار حياة شهد القصيرة على يد الأب بشكل لم يتخيله أحد.. نهاية شهد كانت في أعماق ترعة الإسماعيلية جثة هامدة أخذت معها كل أسرارها. هناك رواية تؤكد أنها انتحرت بإرادتها لتخفي شيئًا ما، وهناك رواية أخرى تؤكد أن الأب هو صاحب الفرمان الجاهلي لإجبارها على الانتحار بسبب شكوك سيطرت على رأسه نحو ابنته... بين الروايتين مازالت هناك حقيقة غائبة ربما تكشف عنها التحقيقات التي مازالت جارية مع جميع أطراف الموضوع حتى كتابة هذه السطور.. ماذا حدث؟، وكيف أُجبرت شهد على الانتحار؟، تفاصيل مثيرة نكشفها لكم فيما تبقى من سطور. الحكاية بدأت في بيت صغير بسيط بعزبة الصعايدة، ببهتيم؛ حيث نشأت بطلة قصتنا «شهد»، أول فرحة للأسرة الصغيرة المكونة من أب وأم وأخ صغير.. كانت شهد دائمًا الأقرب إلى قلب والدها، ابنته المدللة، ونور عينيه التي كثيرًا ما تفاخر بها أمام الناس، يروي حكاياتها بابتسامة فخر، ويرى فيها امتدادًا لروحه. اقرأ أيضا: جريمة أسرية في القليوبية.. والمباحث تكشف اللغز أنهت شهد المرحلة الثانوية التجارية، وكانت تُخطط بجدية للمعادلة.. حلم دخول الجامعة لم يكن بعيدًا عنها؛ تُذاكر بحماس، تُراسل صديقاتها لتعرف التفاصيل، وترتب خطواتها القادمة.. تحلم بأن تكون شيئًا كبيرًا، أن تغيّر واقعها، أن تصبح صوتًا مسموعًا في عالم صاخب، لكن الحلم لم يكتمل.. في لحظة عابرة، تغير كل شيء. فتح والدها هاتفها؛ ربما بدافع قلق، وربما بدافع شك، وما وجده هزه حتى الأعماق؛ رسائل ومحادثات، وعلاقة عاطفية لم يكن يعلم عنها شيئًا. الصدمة كسرت شيئًا بداخله، لم يرَ فيما قرأه مجرد علاقة عاطفية بريئة لابنته الفتاة الصغيرة، بل رأى «عارًا» يسحب من تحته أرض الأمان!؛ فغضب وغلى الدم في عروقه، صرخ في وجهها وضربها ضربًا مبرحًا.. انطفأت شهد من الداخل، ظلت أيامًا في صمت وذل.. ثم جاءت الليلة الأخيرة. انتحار بالأمر طلب منها أن تخرج معه، لم تسأل أين، تبعته بصمت.. تخاف أن تسأله، وهي حينها لم تفهم نظراته الغريبة؛ تلك التي لا تشبهه حين كان يضحك لنجاحها أو يبكي عند مرضها.. سارا معًا حتى وصلا إلى ضفة ترعة الإسماعيلية.. الليل كان ساكنًا، والهواء ساكنًا أكثر.. كأن الطبيعة تعرف ما سيحدث وتصمت بوجع. وقف خلفها لا يحمل حنانًا، بل يحمل قرارًا لا عودة فيه.. ذلك الأب الذي من المفترض به أن يكون الأمان، لكنه اليوم صار الخصم والقاضي والجلاد. ارتعشت قدماها، وخنق الدمع نظرتها، فماذا دار في ذهنها؟، هل تذكّرت سنوات طفولتها على كتفه؟، هل تمنت لو كانت ما تعيشه كابوسًا تستيقظ منه؟! ربما فكرت في أنها لا تستحق هذه النهاية، لكن الوقت لم يمنحها فرصة أكثر، فبصوت غليظ قال لها: «لو عندك ذرة شرف... خلي نهايتك هنا».. نظرت إليه بعينين مذهولتين وبدأت تسأل؛ هل هذا هو أبي؟ هل هذا من علّمني المشي، من حملني على كتفيه؟ أرادت أن تصرخ، أن تشرح، أن تحكي، لكنها لم تنطق.. ربما كانت خائفة، وربما كانت مستسلمة. تقدمت خطوة إلى الأمام، تنفست للمرة الأخيرة، ونظرت إلى الماء كما لو أنه الخلاص الوحيد.. ثم قفزت، فسقطت في الماء وودعت العالم بلا رجعة؛ والسبب مجرد شكوك في ذهن الأب.. رحلت شهد، دون محاكمة، دون دفاع، دون فرصة أخيرة للشرح. بعد يومين، ظهرت جثتها طافية فوق سطح الترعة.. اكتشف الأهالي الواقعة، فأبلغوا الشرطة. بلاغ تلقى اللواء محمد السيد مدير الإدارة العامة لمباحث القليوبية، واللواء محمد فوزي رئيس مباحث القليوبية، إخطارًا من المقدم مصطفى دياب رئيس مباحث قسم ثان شبرا الخيمة، يفيد فيه بتلقيه بلاغ من النجدة بالعثور على جثة لفتاة بترعة الإسماعيلية دائرة القسم. كشفت التحريات؛ أن الجثة لطالبة تدعى شهد عماد، 18 سنة ومقيمة عزبة الصعايدة ببهتيم، ونقلت لمشرحة زينهم تحت تصرف النيابة العامة. كما دلت التحريات أن وراء ارتكاب الواقعة المدعو عماد، 42 عاما ومقيم بعزبة الصعايدة بمنطقة بهتيم بدائرة القسم، (والد المتوفية)، والسبب شكه في سلوكها لقيامها بمحادثة أكثر من شخص على الهاتف، فتعدى عليها بالضرب واصطحبها إلى طريق ترعة الإسماعيلية بمسطرد وأجبرها على إلقاء نفسها بمياه الترعة، وتركها وبعد مرور يومين، عثر عليها بذات المكان جثة هامدة، وتمكنت قوات الإنقاذ النهرى من انتشالها. وعقب تقنين الإجراءات وإعداد الأكمنة اللازمة بقيادة النقباء؛ إبراهيم خضر، ومحمود النجار، ويوسف حمدي، وأمير عز الدين، وكريم عبادة، وعبدالونيس خالد، معاوني رئيس المباحث ضبط المتهم. اعتراف وأمام النيابة وقف الأب أمام النيابة، بصوت مهزوز موجوع، قال: «أنا ماكنتش ناوي أعمل كده... أقسم بالله ماكنتش ناوي.. كانت بنتي الوحيدة، نور عيني زي ما بيقولوا... هي اللي كنت بعيش عشانها هي وأخوها الصغير.. مكنتش بتأخر عليها في حاجة؛ لبس، تعليم، حتى كنت بجهزها تدخل الجامعة بعد التجاري... كانت عايزة تبقى حاجة». صمت قليلا وكأنه يتذكر ذلك المشهد الذي جعل الدم يغلي في عروقه ويرتكب جريمة قتل بلا تفكير أو ذرة عقل، ثم قال: «بس لما شوفت اللي شوفته الدنيا اسودّت قدامي، شوفت رسائل...صور... كلام مش لازم أب يشوفه في تليفون بنته.. كنت حاسس إن الأرض بتتهز تحتي... حسيت إني اتفضحت، إني انكسرت... مش قادر أوصفلك.. ضربتها... شرفي هو كل اللي فاضل ليا.. أخدتها وقولتلها تعالي نمشي شوية... وديتها الترعة، وفضلت أقول لها: طهّري نفسك... طهّرينا من العار... يمكن ربنا يغفر.. أنا ماكنتش أب عايز يؤذيها... كنت أب تايه، غرقان في خوفه من الناس... من كلامهم... أنا قتلت بنتي وضهرى اتكسر، كان ممكن اسامحها صدقوني مش عارف عملت كده ليه»؟! ثم دخل في نوبة من البكاء، وأمرت النيابة بحسبه 4 أيام. حالة من الذهول سيطرت على الأهالي الذين شهدوا بأن المجني عليها كانت في قمة الاحترام والهدوء، وأن الأب كان يحبها بجنون.. جميعها شكوك واحتمالات يرددها الأهالي، فالتحقيقات مازالت مستمرة وستكشف الحقيقة كاملة... فالحقيقة المؤكدة الآن هي أن شهد ماتت ودفن معها الحلم، والجامعة، والمستقبل، وحتى صوتها.. لم تُحاكم شهد، بل حُرمت من صوتها قبل أن تتاح لها فرصة التوضيح.