الكتابة عن هند رستم لم تكن أمرا سهلا على الإطلاق، لم تكتفِ بأنها أيقونة للاغراء، بل تجاوزت ذلك إلى فنانة تجيد قراءة الشخصية وتحويلها إلى كائن نابض بالحياة. ومع الاحتفاء بذكرى ميلادها في الثامن من أغسطس، كان لازما أن أقف قليلا للحديث عن عمل فني واحد في مسيرتها الفنية، بدا الاختيار صعبا وسط هذا الكم من الأعمال الفنية الاستثنائية التي أثرت بها السينما المصرية على مدار مشوارها الفني، الذي تجاوز أكثر من 50 عاما أو ربما أكثر. فقد وقع الاختيار على واحد من أهم أعمالها السينمائية على الإطلاق، والتي تخلت فيه هند رستم عن كونها سيدة الإغراء الأولى في السينما المصرية، وارتدت فيه زي "الراهبات". فيلم "الراهبة" الذي قدمته هند رستم عام 1965، لم يكن عملا فنيا عاديا فحسب، بل كان عملا شديد الخصوصية. يعتبر أول فيلم في تاريخ السينما المصرية يتطرق إلى حياة "الرهبنة" داخل الأديرة المصرية، وقد أشرف على تصوير المشاهد من داخل الأديرة والكنائس عدد من المتخصصين في الديانة المسيحية. وقد كتب في مقدمة الفيلم أن الأب مارون إلياس، رئيس اللجنة الأسقفية الكاثوليكية، أشرف بنفسه على تصوير المناظر الدينية في الفيلم. الفيلم يدور حول شخصية "هدى" التي تعيش مع أختها "سعاد" في جبل لبنان، حيث تمتلكان استراحة على الطريق.. "هدى" شخصية محبة للحياة وللناس، تتصرف بشكل عفوي يعكس شفافية روحها، لكنها تصطدم بنظرة المجتمع لها، بداية من الشاب "إلياس" الذي أغرم وفتن بجمالها، وصولا إلى أبيها الذي كان يرى في انطلاقها خطرا كبيرا عليها، فيقرر أن يزوجها من أول رجل يطرق الباب، لتفر "هدى" هاربة بحثا عن السلام والطمأنينة الذين افتقدتهما في بيت أبيها وباتت تبحث عنهما، فكان هروبها إلى الكنيسة هو بداية الصراع الحقيقي بين حبها للرب وتعلقها به، وبين حبها لكل ملذات الحياة. فباتت صامتة، لكن نظراتها كانت بالغة التأثير، فعشنا معها ذلك الصراع الداخلي في واحد من أهم مشاهد الفيلم. استسلمت "هدى" وخرجت من الصمت إلى صخب الحياة مرة أخرى، باحثة عن فرصة أخيرة لقلبها، في مشهد تمتزج فيه الرغبة والخوف في آن واحد. تصطدم "هدى" للمرة الثانية حينما تعلم أن من تحرك قلبها نحوه مال هو نحو أختها، فضحت بحبها من أجل سعادة أختها، وهذا دليل صريح على كم الحب الذي تحمله "هدى" لكل من حولها، ويؤكد صدق نواياها. فتفر هاربة مرة أخرى، لكن إلى طريق آخر "الملهى الليلي"، ليظل الصراع قائما بين تعلقها بالرب والحياة. لتعود أخيرا إلى الكنيسة، ليس كمن يهرب بل كمن اختار، وهذا ظهر جليا في الحوار بينها وبين القسيس: – لماذا تقدمتِ ساجدة؟ وماذا تطلبين؟ = أطلب أن أكون راهبة. – عن اختيار أم عن غصب وكره؟ = عن اختيار، وكلي شوق. ومن هنا ينتهي الصراع، وإلى الأبد، لتعرف "هدى" الطريق الصحيح التي ظلت تبحث عنه طوال أحداث الفيلم. ليست المرة الأولى التي تتخلى فيها هند رستم عن الصورة النمطية التي عرفها بها الجمهور، حيث استطاعت في فيلم "الراهبة" أن تقدم شخصية إنسانية من الدرجة الأولى. وأظن أن لمسات المخرج الكبير حسن الإمام، بدت واضحة، حيث ترتكز سينماه على الصراعات الإنسانية، وهنا كانت البطلة في صراع بين الحب والحياة والرب. وعلى الرغم من أنه يبدو للبعض تقليديا، فقد اعتمد إمام على المباشرة في الحوار، وأيضا على الزوايا الثابتة للكاميرا للتركيز أكثر على مشاعر الشخصية، وهذا يندرج تحت مسمى المدرسة الكلاسيكية. بعيدا عن الفن.. لم تكن هند رستم فنانة فقط، بل كانت إنسانة راقية تحظى بالاحترام وتتمتع بذوق رفيع في تعاملاتها مع كل من حولها. فأظن أنني قرأت في حوار سابق لها في مجلة فنية عن موقف تسبب لها في إحراج شديد أثناء تصوير فيلم "الراهبة" في بيروت الشقيقة. اقرأ أيضا: ذكرى ميلاد هند رستم .. مارلين مونرو الشرق «كومبارس» على ظهر حصان حينها كانت تجلس "هند" في مكان عام وتشرب سيجارة كالمعتاد، وأشعلتها وراحت تنفث دخانها في الهواء، حتى لاحظت أن إحدى السيدات قد غادرت مكانها وتتجه نحو "هند". ارتبكت "هند" التي تجلس مرتدية ملابس الراهبة وقامت بتصرف غريب، فقد أسرعت بإخفاء السيجارة بين أصابعها وأخفتها في كم الرداء الواسع الذي ترتديه، وقد انتابها الخجل، وتقول هند: "انتبهت السيدة، ولفت نظرها الدخان الكثيف المتصاعد من كم ملابسي، وشعرت بالإحراج، وانزعجت". وفسرت "هند" سبب إحراجها حينها أنها قامت بتصرف غير لائق، فقد كانت "هند" ترتدي ملابس الراهبة، وأرادت الاستراحة لبعض الوقت، وعلى حد وصفها فكان من الخطأ أن تقوم بتصرف خاطئ لا يتناسب مع هذا الزي المقدس التي ترتديه. فقد شعرت بحرج شديد، فهذا الدور مختلف عن كل الأدوار التي قمت بها لأنه دور ديني ولكل دين آدابه التي يجب إتباعها واحترامها حتى لو كان تمثيل. "الراهبة" ليس مجرد عمل فني لهند رستم، بل كان محطة فنية استثنائية، أثبتت من خلالها موهبتها الفذة ومدى قدرتها الفنية بعيدا عن عباءة الجمال والإغراء. وفي ذكرى ميلادها.. وحده الأثر هو من يذكرنا بفنانة أفنت حياتها من أجل الفن، وخاصة هذا الدور على وجه التحديد كان بمثابة صفعة عرفنا من خلالها هند رستم قيمة وقامة فنية كبيرة.