خلال نقاش مع كاتب يونانى قبل سنوات قليلة، انتبهتُ، وأنا أحدثه عن طبيعة أسواق النشر العربية، إلى أن كثيرًا مما نعده أسبابًا لمشكلات النشر لدينا، يمكن - إذا غيّرنا زاوية النظر - أن يُعَد نقاط قوة، بشرط توافر الرؤية والإرادة. بدا هذا الكاتب فضوليًا ومهتمًا بأدق التفاصيل؛ سأل عن الجوائز الأدبية ومدى قدرتها على رفع أرقام توزيع الكتب الفائزة، وعن طبيعة دور النشر واتجاهاتها، كما أخبرنى الكثير عن دور النشر اليونانية وتجربته مع الترجمة إلى التركية والفرنسية، حيث فوجئ باتساع دوائر المقروئية فى هذين البلدين. اندهش عندما أخبرته بقيمة الجوائز الأدبية العربية المادية، وتضاعفت دهشته حين علم أن معظمها لا يؤثر كثيرًا على مبيعات الكتب الفائزة، ولا على فرص ترجمتها. ما لفت انتباهى بشدة كان انبهاره بعدد معارض الكتب فى العالم العربى، وما تمثّله من فرص للتواصل بين كُتّاب اللغة الواحدة وقرائهم وهى ميزة قد لا تتوافر فى مناطق أخرى، سوى فى أمريكا اللاتينية، حيث تنتشر الدول الناطقة بالإسبانية، وعلى نحو أقل فى ألمانيا والنمسا والجزء السويسرى الناطق بالألمانية. بناءً على ردة فعله، بدأت أراجع قناعاتى بشأن واقع النشر العربى؛ فصحيح أن هناك مشكلات لا يمكن إنكارها، مثل: اعتماد معظم دور النشر على الإدارة الفردية أو العائلية، والافتقار إلى استراتيجيات مهنية واضحة، وصعوبة انتقال الكتب بين البلدان العربية بسبب القيود الرقابية والجمركية، إلى جانب انتشار القرصنة. لكن، فى الوقت نفسه، هناك مزايا يمكن استثمارها والبناء عليها، من أبرزها: الامتداد الجغرافى والتنوع الثقافى، وكثرة المعارض العربية كما سبق أن أشرت، وظهور أسواق جديدة فى دول كانت تُصنَّف سابقًا كهوامش، ووجود مؤسسات حريصة على شراء كميات كبيرة من الكتب فى معارض مختلفة، فضلًا عن مبادرات القراءة الموجهة للأطفال والشباب التى ترسخت على مدى سنوات. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نحو نصف سكان الوطن العربى من الشباب، بحسب الإحصاءات الرسمية، وهؤلاء يمكن جذبهم إلى فضاءات جديدة مثل الكتب الإلكترونية والصوتية. وعلى ذكر هذين النوعين، فلا يجب أن ننسى أن سوقيهما لا تزالان فى بداياتهما، ما يجعلهما قابلتين للمزيد من المبادرات والشركات فالبطء فى التحول الرقمى عربيًا يعنى، من جانب آخر، أن السوق لا تزال مفتوحة وحافلة بفرص غير مستثمرة. فى النهاية، وباختصار: رغم أن سوق النشر العربي ليس فى أفضل حالاته، فإنه لا يفتقر إلى الإمكانات والفرص، بقدر ما يفتقر إلى الرؤية والتنسيق والاحترافية.