ثمة ما يُثير في النفس غُصّة حين أطالع تغريدات بعض الشخصيات المؤثرة في المجتمع السعودي على منصة «إكس».. حقيقة، لا أفهم لماذا يُصرّ بعض من يُفترض أنهم من النخبة، على إرسال رسائل يُساء فهمها بشأن طبيعة العلاقة بين مصر والمملكة. لا أُعير كثيرًا من الاهتمام لما يتداوله الذباب الإلكتروني من هنا أو هناك، فهؤلاء مجرد دُمى تُحرّكها أهداف خبيثة، لكن ما لا يمكن تجاهله هو ما يصدر عن شخصيات يُفترض فيها أنها من صناع الرأي العام، وأنها تملك التأثير في اتجاهات الجمهور. هؤلاء، حين يتحدثون، لا يفعلون ذلك فرادى، ولا ينبغي التعامل مع رسائلهم على أنها اجتهادات شخصية عابرة، سيما حين تتكرر النغمة نفسها في أكثر من منبر، وتُغلّف بعبارات التكامل والمصلحة، بينما تُخفي في طياتها تلميحات تُخلّف أثرًا سلبيًا في الوجدان الجمعي. العلاقة بين مصر والسعودية علاقة متجذرة ومركّبة، اجتازت عبر التاريخ محطات من المد والجزر، ولا يمكن اختزالها في تغريدة، ولا حصرها في تصريح عابر. من الطبيعي أن تختلف الرؤى بين عاصمتي القرار العربي، فكل دولة ترسم سياستها الخارجية وفق رؤيتها الاستراتيجية وأولوياتها الخاصة، سواء على المدى القصير أو البعيد.. انطلاقًا من هذا قد تنشأ فجوة في وجهات النظر حول ملفات إقليمية معقدة، لكن التعامل مع هذه الفجوة ينبغي أن يتم تحت مظلة الأمن القومي العربي، لا عبر تصدير رسائل مربكة توحي بتنافس لا وجود له. أكدت مرارًا في أكثر من منبر، أن العلاقة بين القاهرة والرياض تكاملية لا تنافسية، ومن مصلحة البلدين، ومصلحة العرب جميعًا، أن تبقى كذلك.. أما من يسعى لتحويلها إلى صراع زعامات، أو يوهم الرأي العام بوجود سباق على قيادة الإقليم، فإنه عن وعي أو دون قصد، يدق المسمار الأخير في جدار الأمن القومي العربي.. هل هذا يُعقل؟ لماذا نجيد خوض معارك تكرس سرديات تخدم أجندات خارجية؟. مصر ليست في منافسة مع أحد، بل في شراكة استراتيجية مع كل جهد يُفضي إلى تثبيت أركان الأمة، والتصدي لمخططات التصفية أو التفكيك، والسعودية كانت ولا تزال، أحد أعمدة الاستقرار الإقليمي. المشاركة في هذا السجال الرقمي دون وعي، تخدم خصومنا الذين يتحينون أي فرصة لإشعال الخلافات بين الأشقاء.. دعونا نُصارح أنفسنا: أولًا: التباين في التقديرات مسألة واردة بين أي حليفين، لكنه لا ينتقص من قيمة أي طرف، ولا يستدعي قرع طبول الفرقة.. ثانيًا: هناك من يتمنّى، بل ويعمل ليل نهار، على شق الصف المصري - السعودي، ويرى في أي تباين، مهما كان طفيفًا، فرصة لضرب ما تبقى من النظام العربي، ومن المؤسف أن هناك من يروّج لفكرة «زعيم الإقليم» لتأجيج التوترات، وهي لعبة باتت مكشوفة، ولم تعد تنطلي على الشعوب الواعية. في أجواء كهذه، يُصبح استدعاء المواقف التاريخية التي عكست صلابة العلاقة بين القاهرة والرياض ضرورة، ومن أبرزها ما ذكره الأمير تركي الفيصل قبل سنوات « من يحاول أن يصوّر العلاقة بين المملكة ومصر وكأنها علاقة ندّية أو منافسة على الزعامة، إنما يجهل التاريخ والجغرافيا.. ما بيننا وبين مصر أكبر من ذلك بكثير، فنحن نكمّل بعضنا، ولا يمكن لأي أحد أن يعزف على وتر الفرقة من دون أن يُسقط على نفسه قناع الفتنة». الموقف الآخر كان في بداية الألفية الجديدة، في أعقاب غزو العراق عام 2003، حيث احتضنت مدينة شرم الشيخ قمة عربية استثنائية، لعب فيها التنسيق المصري - السعودي دورًا محوريًا في بلورة موقف عربي موحد، ورفض أي محاولات لإعادة رسم الخريطة الإقليمية على أسس طائفية أو مذهبية. في تلك القمة، اتفق البلدان على أن وحدة الصف العربي لا تتحقق إلا بالتنسيق بين القاهرة والرياض، وهو ما مكّن القمة من إفشال محاولات جرّ دول عربية إلى مسارات تُضعف مناعة الإقليم. هذا النوع من العلاقات لا تعتريه العواصف مهما كانت قوتها، لأنه يتحصن خلف تاريخ مشترك ومصالح عميقة. اللحظة الراهنة، بكل تعقيداتها، تستدعي تنسيقًا مصريًا - سعوديًا يخترق سرديات الفتنة.. الخطر الحقيقي لا يكمن في تباين التقديرات، بل في الوهم الذي يحاول أن يسوقه البعض، بأن دولة عربية بمفردها قادرة على مجابهة التحديات، مع الأخذ في الاعتبار أن التحولات العالمية المتسارعة تفرض نمطًا جديدًا من التحالفات يقوم على المصالح، لا الشعارات. وفي هذا السياق، يبقى التناغم المصري - السعودي هو صمّام الأمان الأول في مواجهة التحديات، وأي تصدع في هذه العلاقة الاستراتيجية سيكون بمثابة ثغرة يتسلل منها الخصوم، ويُترجم على الفور إلى اهتزازات في جبهات عربية أخرى. بيت القصيد: تباين وجهات النظر بين الدول لا يعكس خلافًا بقدر ما يُجسّد حيوية العلاقة ونضجها.. ما يجمع القاهرة بالرياض أكبر من أن يُختزل تغريدة ساخرة أو «بوست» يحوي رسائل مُربكة.. نحتاج دومًا إلى خطاب عربي يجمع ولا يفرق، لأن وحدتنا هي سبيل نجاة مركبنا من الغرق.