في الأول من يوليو من كل عام، يحتفل العالم ب"اليوم العالمي للنكتة"، وهي مناسبة طريفة تحمل في طياتها رسالة إنسانية عميقة، فالنكتة ليست مجرد كلمات تُقال لانتزاع ابتسامة عابرة، بل أداة فاعلة للتفريغ النفسي، وكسر الجمود، وتعزيز التواصل الإنساني. ومع أن الكثيرين يظنون أن النكتة نتاج حديث لعصر الإنترنت أو الحداثة، إلا أن جذورها تمتد إلى عصور بعيدة في عمق التاريخ، وتحديدًا في مصر القديمة، حيث عُرف الفراعنة بخفة دمهم وقدرتهم على التعبير عن النقد والسخرية بأسلوب ساخر راقٍ. اقرأ أيضا| 70 ألفاً يزورون «رمسيس وذهب الفراعنة» بطوكيو في هذا التقرير، نأخذكم في رحلة عبر الزمن، لنتعرف على الطابع الفكاهي للقدماء المصريين، وأشكال النكتة والضحك في حضارات ما قبل الميلاد، بدءًا من معابد الأقصر وصولًا إلى الفلسفة اليونانية التي تفاعلت مع التراث المصري. كما نُسلط الضوء على كيف فهم القدماء فوائد الضحك للصحة الجسدية والنفسية، بل واستخدموه في الممارسات اليومية والدينية، مؤمنين بأن الضحك جزء من شفاء الروح. أولًا: ما هو اليوم العالمي للنكتة؟ يُصادف "اليوم العالمي للنكتة" في الأول من يوليو، وهو مناسبة رمزية تُشجّع على نشر البهجة وخفة الظل، وتشجّع الناس على مشاركة النكت والمواقف الطريفة بهدف تعزيز الصحة النفسية والتقارب بين البشر. وقد انطلقت فكرة هذا اليوم من منطلقات نفسية وإنسانية، خصوصًا في ظل الضغوط المتزايدة التي تفرضها الحياة العصرية، حيث بات الضحك عملة نادرة، في حين تؤكد الدراسات الحديثة أن الضحك يُعدّ من أقوى العلاجات النفسية وأكثرها فاعلية في تخفيف التوتر وتحفيز هرمونات السعادة. لكن، هل كان القدماء يضحكون مثلنا؟ وهل كان لهم تراث من النكت والطرائف؟ هذا ما نستكشفه فيما يلي. ثانيًا: الضحك عند المصريين القدماء... بين الطقوس والنقد الاجتماعي 1. النكتة في حياة المصري القديم المصري القديم كان يعرف الضحك جيدًا، بل وكان يُبدع في التعبير عن روح الدعابة من خلال مواقف مرسومة على الجدران أو قصص مدونة على ورق البردي، وأحيانًا عبر مسرحيات شعبية وأغانٍ ساخرة. من أشهر النماذج التي تدل على حس الفكاهة لدى الفراعنة، مشهد شهير مرسوم على إحدى برديات الدولة الحديثة، يُظهر حمارًا يعزف على آلة موسيقية وقطًا يقدم مشروبًا! ويُعتقد أن هذا المشهد كان نوعًا من السخرية الرمزية من الطبقات أو من الحياة الاجتماعية. 2. السخرية السياسية والدينية لم يكن المصري القديم يهاب السخرية، بل استخدمها لتوجيه النقد. نُقلت إلينا بردية تعرف ب"بردية الحيوانات الساخرة"، وفيها تظهر مشاهد تقلب الواقع، حيث تُصور الفأر كحيوان قوي يحارب القط، ما يُشير إلى سخرية من مفاهيم القوة والنفوذ. وفي بردية أخرى، يُذكر نص فكاهي على لسان رجل يدّعي أنه يستطيع الحديث مع التماسيح، في سخرية من ادعاء الكهنة الزائف. 3. الضحك في المناسبات والأعياد كان الضحك والمرح عنصرًا أساسيًا في الأعياد الدينية والاجتماعية، مثل عيد "الوادي الجميل" الذي كان يُحتفل به في طيبة (الأقصر الآن)، حيث تتزين القوارب، وتُعزف الموسيقى، وتنتشر النكات بين الناس، خاصة في الاحتفالات التي تُقام لتكريم الموتى. وكان المصريون يحرصون على تضمين الطرافة في القصص التي تُحكى خلال تلك المناسبات، لأنهم كانوا يعتقدون أن الأرواح تتسلّى بالضحك أيضًا. ثالثًا: فلسفة الضحك عند الفراعنة 1. الضحك علاجٌ للروح يبدو أن القدماء المصريين فهموا مبكرًا أن الضحك ليس مجرد ترف، بل وسيلة علاجية، فقد ارتبط الضحك بالطقوس التي تُقام للشفاء من الأمراض، وكان يُعتقد أن من يضحك كثيرًا يعيش طويلًا ويظل في صحة جيدة. 2. الرموز المرتبطة بالفكاهة كانت بعض الآلهة ترتبط بالمرح والضحك، مثل الإله "بس" الذي صُوِّر بشكل ساخر بوجه بشوش ولسان ممدود، وكان يطرد الأرواح الشريرة من المنازل، ويُستخدم تمثاله في غرف الولادة، حيث يُقال إن ضحك الطفل الأول كان يُهدى إلى الإله بس كنوع من البركة. 3. النكتة كأداة تعليمية في مدارس المعابد، كانت تُروى القصص الطريفة للطلاب بهدف تعليمهم القيم بطريقة محببة، ويُعتقد أن كثيرًا من القصص الساخرة كانت تُستخدم كوسيلة لتمرير القيم الأخلاقية أو التحذير من سلوك معين. رابعًا: النكتة والضحك في اليونان بمصر القديمة مع دخول الإغريق إلى مصر، خاصة بعد تأسيس الإسكندرية على يد الإسكندر الأكبر، اختلطت الثقافة اليونانية بالحضارة المصرية، وظهرت تأثيرات واضحة في الفنون والفكر. ومن المعروف أن الفلاسفة اليونانيين مثل ديموقريطس -الذي لُقّب ب"الفيلسوف الضاحك"- تأثروا بالحكمة المصرية، حيث كان ديموقريطس يعتقد أن الضحك دليل على الفهم العميق للحياة. وكانت المسارح تُعرض فيها مشاهد ساخرة، بعضها يدور حول الحياة اليومية في الإسكندرية، التي كانت مدينة نابضة بالحياة والتنوع، ما أتاح مجالًا واسعًا للنكتة والفكاهة السياسية والاجتماعية. خامسًا: فوائد الضحك كما فهمها القدماء 1. تقوية المناعة ومقاومة الحزن ربط المصريون القدماء بين الضحك وصحة الجسد، حيث اعتقدوا أن الضحك يُطرد الأرواح الشريرة ويُقوي المناعة. وفي كتابات الطب القديم، تظهر إشارات لضرورة إبقاء المريض في جو من البهجة لتسريع الشفاء. 2. الحفاظ على توازن القلب تُظهر بعض النصوص القديمة إشارة إلى أن "القلب المتزن هو قلب يعرف الضحك"، وهي جملة تدل على فهمهم النفسي العميق لأثر الضحك في تهدئة النفس وتخفيف الضغوط النفسية. 3. الضحك كوسيلة تربوية كان يُنظر إلى الفكاهة باعتبارها وسيلة فعالة للتربية، إذ إن المعلمين كانوا يستخدمون الطرافة لجذب انتباه الطلاب، كما كان الكهنة يستخدمون القصص المضحكة لشرح مفاهيم دينية معقدة. سادسًا: نماذج من النكات القديمة 1. نكتة عن الزواج تقول بردية قديمة: "لا تتزوج إلا إذا كنت تضحك على نفس النكتة لعشرين سنة!" هذه العبارة الساخرة تظهر إدراك المصري القديم لأهمية الضحك في الحياة الزوجية. 2. نكتة عن الكهنة يروى أن أحد العامة ذهب لكاهن يشتكي من الأرواح الشريرة، فأجابه الكاهن: "هل جربت أن تضحك؟ إنهم يكرهون السعادة!" 3. سخرية من البيروقراطية ورد في إحدى القصص: "ذهب الرجل ليطلب ختمًا، فأخبره الكتبة أنه يحتاج إذنًا من ثلاثة كهنة، فأجاب: ومتى أطلب الضحك؟" سابعًا: هل لا زلنا نضحك كالفراعنة؟ رغم مرور آلاف السنين، إلا أن النكتة ما زالت تحتفظ بنفس الروح، وهي كاشفة لعادات الشعوب، ومرآة لمشاكلهم. وقد تكون النكتة في مصر اليوم، كما كانت بالأمس، صمام الأمان في مواجهة الأزمات، ومنبعًا للحكمة المغلفة بخفة الظل. إن إعادة اكتشاف تراث النكتة عند القدماء المصريين هو استعادة لجانب إنساني عميق في حضارة لطالما ارتبطت بالجدية والعظمة، لكنها، في الحقيقة، حضارة عرفت كيف تضحك.. وكيف تُضحك غيرها. في يوم النكتة العالمي، يجدر بنا أن نتأمل في تاريخ الضحك ذاته، لا كظاهرة سطحية، بل كقيمة إنسانية وموروث حضاري، لقد سبقنا المصريون القدماء إلى الضحك، وربما علمونا أن الضحك فن وموقف من الحياة، لا مجرد رد فعل. فليكن الضحك أداة للبقاء، كما كان من قبل، ولنعترف أن من يملك روح النكتة... يملك نصف الحياة.