خبراء: أدوات الاختراق الناعم تحاول تشكيل المجتمعات من الداخل إعلام المواطن ينقلب ضده إذا نشر دون وعى المنصات تستغل بيانات المستخدمين وتُرسل الرسائل دون علمهم فى عالم لم تعد الحروب فيه تُدار عبر ساحات القتال وحدها، ظهرت ساحات جديدة لا تحتاج إلى مدافع ولا جنود بل إلى بيانات وشبكات وهواتف ذكية تصنع الفارق وتفضح الأسرار وتعيد رسم خرائط النفوذ الدولى من جديد، وفى تلك الساحات صارت أدوات تبدو بريئة مثل تطبيقات توصيل الطعام أو الخرائط الرقمية أو حتى مراجعات منشورة على مواقع التقييمات جزء لا يتجزأ من المعارك الصامتة التى تدور بين الدول دون أن يدرى أحد، لذا حرصت «الأخبار» على رصد بعض أذرع حرب المعلومات وكيفية تحليل البيانات البسيطة من بعض المصادر المكشوفة والحديث مع الخبراء عن أهمية مواكبة التطور مع الحفاظ على الخصوصية والأمان قدر المستطاع. فى ظل الحرب بين إسرائيل وإيران اتضح أهمية المعلومات ودور الإعلام فى الحروب، وظهر على الساحة حساب على «تويتر» سابقًا «إكس» حاليًا إسمه «تقرير بيتزا البنتاغون» يتابعه مئات الآلاف حول العالم نشر تغريدة عن نشاط محال البيتزا القريبة من وزارة الدفاع الأمريكية المجاور للعاصمة واشنطن، بعض الحسابات اعتبرت ما سجله الموقع عن حركة شراء عالية للغاية قبل الهجوم الإسرائيلى على إيران مؤشرًا على المعرفة المسبقة بالضربات والبعض الآخر سخر من التغريدة، إلا أن هذا المؤشر دل على وجور تجمع حقيقى من قبل القيادات الأمريكية قبل الهجوم. أدوات جديدة ورغم أن القصة تبدو للوهلة الأولى مجرد ملاحظة طريفة فإنها تفتح بابًا واسعًا لفهم حروب من نوع جديد تعتمد على أدوات مفتوحة المصدر مثل مواقع الخرائط الإلكترونية وبيانات التوصيل ومواقع تتبع الطيران والسفن وحركة المرور بل حتى مواقع التواصل الاجتماعى، فقد سبق ونشر باحثون من مركز أمريكى تحقيقًا أظهر كيف أدى تحليل بسيط لطلبات توصيل الطعام فى منطقة نائية إلى اكتشاف نشاط عسكرى غير معلن بالقرب من قاعدة أمريكية فى الخارج، حيث لوحظ ارتفاع مفاجئ فى طلبات الأطعمة الأمريكية السريعة إلى نقطة معزولة ما دفع الباحثين للاعتقاد بوجود وحدة عسكرية جديدة لم يتم الإعلان عنها. ما وراء الأرقام وبالطريقة نفسها يمكن لتطبيقات التوصيل كشف أنماط غير معتادة فى حركة الأشخاص أو تركز النشاط فى مناطق بعينها بشكل مفاجئ وهو ما يمكن استغلاله فى تحليل الأزمات أو الاستعدادات أو حتى التحركات الأمنية من تحليل وكشف ما وراء الأرقام. أما الهواتف الذكية فهى تسجل بشكل دائم حركة المستخدمين من خلال خاصية الموقع الجغرافى المفتوحة دون أن يدرك معظم الناس خطورة هذه البيانات، وبعض الشركات المالكة لمحركات البحث أو المتصفحات قادرة على تحليل أنماط التردد على الأماكن ورصد الازدحام بل وإظهار أوقات الذروة كما فى واقعة البيتزا المذكورة وهو ما يفتح الباب لتخمينات تحليلية قد تكون لها أبعادًا استراتيجية. خاصية التتبع تشير دراسة من جامعة أمريكية كبرى «ستانفورد» إلى أن نحو 85% من مستخدمى الهواتف لا يوقفون خاصية التتبع مما يجعل بيانات تحركهم وسلوكهم الغذائى والصحى وحتى توجهاتهم الفكرية مادة خام للتحليل والاستغلال بل وتوجيه الإعلانات بمجرد النطق بأسماء أشياء أثناء الحديث، وفى نفس السياق أصبحت مواقع التواصل الاجتماعى ساحة حرب متقدمة تستخدمها الدول للتأثير على الرأى العام فى الداخل والخارج. وفقًا لتقرير نشرته شبكة «Statista» المتخصصة فى التحليلات البيانية، بلغ عدد أجهزة الهواتف المحمولة فى جميع أنحاء العالم حوالى 15 مليار جهاز فى عام 2021، ومن المتوقع أن يرتفع هذا الرقم إلى 18.22 مليار جهاز خلال العام الحالى 2025. فى عام 2023 فرضت لجنة حماية البيانات الإيرلندية، نيابة عن الاتحاد الأوروبى، غرامة قياسية تبلغ 1٫2 مليار يورو على شركة «ميتا» المالكة لفيس بوك، بسبب نقلها بيانات مستخدمين فى الاتحاد الأوروبى إلى الولاياتالمتحدة فى انتهاك لحكم قضائى سابق. أدوات تنصت فى هذا الشأن، أكد د. حسام لطفى، خبير قوانين الاتصالات والإنترنت، أن أدوات التواصل الاجتماعى ليست مجرد وسائل للتفاعل أو التسلية، بل أصبحت فى جوهرها أدوات للتنصت وجمع وتحليل البيانات، مشيرًا إلى أن من يستخدم هذه الوسائل يتحول فعليًا إلى «سلعة». وأوضح خبير الاتصالات، أن استخدام التطبيقات والمنصات الاجتماعية بشكل مجانى لا يعنى أنها بلا مقابل، موضحًا أنه حين نتعامل مع هذه المنصات دون مقابل مادى، فإنك تدفع بمعلوماتك وبياناتك الشخصية، وهم يجمعونها، يحللونها، ويحددون من خلالها اهتماماتك الدقيقة. وأشار د. لطفى إلى أن سياسات الخصوصية لتلك المنصات تتيح لها استخدام بيانات المستخدمين بحرية، بل وتمنحها صلاحية إرسال رسائل نيابة عنهم، وأن هذه الممارسات واضحة فى بعض التطبيقات الشهيرة، مختتمًا حديثه بالتأكيد على ضرورة الوعى بهذه الممارسات عند استخدام الإنترنت، مشيرًا إلى أن الدخول على أى موقع أو تطبيق يجب أن يكون مصحوبًا بوعى قانونى وتقنى لحماية خصوصيتنا وحقوقنا الرقمية، فالهواتف الذكية بمثابة جواسيس محمولة سواء بعلم صاحبها أم لا، مختتمًا حديثه ب «إذا كان عدد مستخدمى الهواتف الذكية فى العالم ما يقرب من 15 مليار هاتف فإنهم 15 مليار جاسوس». أسلحة المعرفة ويؤكد د. أحمد صبرى، خبير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، بأن منصات التواصل الاجتماعى لم تُصمَّم أساسًا للتسلية أو التواصل فحسب، بل هى «أدوات تجسس ومعرفة واختراق ناعم»، معتبرًا أن هذه المنصات باتت تلعب أدوارًا استراتيجية فى الحروب المعاصرة، وتستخدم كسلاح فعّال فى التأثير على المجتمعات وتوجيه الرأى العام. ويرى أن وسائل التواصل الاجتماعى هى فى جوهرها أدوات تجسسية، وأدوات تحليل معرفى عميق، وهذا ما يفسر انتشارها السريع، وسر الصراعات المتصاعدة بين الدول حول السيطرة عليها. ونوّه د. صبرى إلى خطورة هذه الأدوات التى لا تقتصر على جمع المعلومات، بل تشمل أيضًا القدرة على تشكيل المفاهيم وتوجيه السلوك العام وليس اختراق الخصوصية فحسب، بل عن توجيه الرأى العام، وتغيير المفاهيم، والتأثير على القيم الوطنية والدينية وحتى النفسية، ويمكن استهداف الشخصيات المؤثرة، ويمكن تمرير رسائل معادية للأنظمة من خلال محتوى يبدو بريئًا فى ظاهره. وأوضح أن قيادات فلسطينية بارزة، بالإضافة إلى شخصيات من حزب الله فى لبنان، تم تتبعهم واستهدافهم من خلال استخدام هواتفهم المحمولة، ورصد نشاطهم عبر تطبيقات التواصل الاجتماعى، وهو ما تم الإعلان عنه لاحقًا من قبل جهات رسمية وإعلامية، وقد أُدرجت كبرى الشركات التقنية مثل ميتا، وجوجل، ومايكروسوفت ضمن الجهات المتورطة بشكل مباشر أو غير مباشر فى تسهيل هذا النوع من الاختراقات. وأشار إلى أن هذه الشركات لم تنفِ مشاركتها، بل تحدثت عن تعاونها ضمن ما أسمته «أنظمة معلوماتية» مدعومة بالذكاء الاصطناعى، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام تساؤلات حول حجم التنسيق الأمنى الخفى بين شركات التكنولوجيا الكبرى وبعض الأنظمة السياسية، وأن منصات التواصل الاجتماعى لم تعد مجرد فضاء رقمى للتفاعل، بل تحولت إلى أدوات لاختراق الأنظمة المعلوماتية للدول، والوصول إلى بيانات الأفراد بدقة متناهية، ما يجعلها من أخطر أسلحة الجيل الحديث فى الحروب غير التقليدية. المنصات الرقمية ويرى خبير الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، أن الحديث عن وجود بدائل حقيقية لوسائل التواصل الاجتماعى الحالية لا يزال بعيد المنال، خاصة فى ظل هيمنة الشركات الأمريكية والصينية على سوق المنصات الرقمية العالمية، وأن ما يُطرح أحيانًا كحل هو الانتقال من المنصات الأمريكية إلى نظيرتها الصينية، إلا أن ذلك لا يمثل بديلًا حقيقيًا بقدر ما هو استبدال لطرف مراقب بطرف آخر، حيث إن جميع هذه الأنظمة، سواء أمريكية أو صينية، تخضع لرقابة صارمة وتُدار وفق مصالح استخباراتية، وتملك القدرة على الاطلاع الكامل على مجريات حياة المستخدمين.. وأضاف أن الهواتف المحمولة الحديثة باتت فى حد ذاتها أدوات مراقبة، إذ تسجل المحادثات بشكل خفى، وتستخدم الكاميرات والميكروفونات دون علم المستخدم فى بعض الأحيان، تحت ذريعة التحسين المستمر لتجربة الاستخدام أو الخدمات القائمة على الذكاء الاصطناعى.. وأكد صبرى أن كلما دار الحديث حول ضرورة إطلاق منصات تواصل وطنية أو عربية، يتكرر الطرح دون تنفيذ فعلى، مشيرًا إلى أن الفجوة التكنولوجية التى تفصل العالم العربى عن الدول المتقدمة تتجاوز عشرين عامًا، إذ يعود تأسيس فيسبوك إلى عام 2004، بينما لا تزال المشاريع العربية فى هذا المجال حبيسة الأفكار والخطط الورقية، وشدد على أهمية وضع سياسات أمنية صارمة، إلى جانب تعزيز الوعى المجتمعى، لتمكين الأفراد من استخدام هذه الوسائل بحذر ومسئولية، بدلًا من الاعتماد على بدائل غير متوفرة أو غير فعالة فى المدى القريب. أنظمة التشغيل ونوّه د. صبرى إلى أن الخطر لا يكمن فقط فى منصات التواصل الاجتماعى، بل يتجاوزها إلى ما هو أعمق وأكثر تحكمًا، وهو أنظمة التشغيل نفسها، والتى تُعد البنية الأساسية لأى هاتف ذكى أو جهاز ذكى متصل بالإنترنت، مشيرًا إلى أن أنظمة التشغيل مثل «أندرويد» و»iOS»، واللتين تُستخدمان فى غالبية الهواتف الذكية حول العالم، تتحكم بشكل كامل فى صلاحيات التطبيقات المثبتة على الأجهزة، وهى التى تمنح أو تمنع وصول أى تطبيق - ومن بينها تطبيقات التواصل - إلى الكاميرا أو الميكروفون أو الموقع الجغرافى أو جهات الاتصال وغيرها. وأشار إلى أن نظام التشغيل هو «صاحب البيت» فعليًا داخل الجهاز، إذ يملك الصلاحيات الكاملة للوصول إلى كل ما يحتويه الهاتف، بدءًا من بيانات المستخدم، مرورًا بمستشعرات الحركة والموقع، وحتى الصوت والصورة. وأوضح أن حتى بعض البدائل المطروحة حديثًا، مثل نظام التشغيل الصينى الخاص بشركة هواوى، أو بعض الأجهزة العاملة بنظام ويندوز، لا تزال محدودة الانتشار ولا تمثل حلولًا واقعية لحماية الخصوصية على نطاق واسع. وأكد أن السيطرة الحقيقية على الخصوصية تبدأ من التحكم فى أنظمة التشغيل، وليس فقط فى التطبيقات، وهو ما يتطلب وجود بنية رقمية مستقلة وآمنة، وهو أمر لا يزال غائبًا فى معظم الدول النامية، وأن الشخصيات القيادية والعلماء والخبراء فى مختلف المجالات ليسوا فى مأمن من الاستهداف الرقمى، بل هم من أكثر الفئات عرضة لذلك، نظرًا لما يمتلكونه من معلومات حساسة ومواقع مؤثرة داخل مؤسساتهم ودولهم.. وأضاف أن عمليات الاستهداف لا تكون دائمًا مباشرة أو علنية، وإنما تتم من خلال جمع تدريجى للمعلومات، وتحليل سلوك المستخدم، والتقاط البيانات من خلف الكواليس، مما يجعلها أكثر خطورة وأقل وضوحًا. بدون سلاح يُعد الإعلام أحد أبرز أدوات حروب الجيلين الرابع والخامس، خاصة فيما يتعلق بإدارة الشائعات وشن الحروب النفسية، التى تُعد من أخطر الأسلحة غير التقليدية المستخدمة فى النزاعات الحديثة، بحسب ما تؤكده د. سارة فوزى، مدرس الإذاعة والتليفزيون والإعلام الرقمى بكلية الإعلام بجامعة القاهرة، بأن وسائل الإعلام، بجميع أنواعها، أصبحت تلعب دورًا جوهريًا فى التأثير على معنويات الشعوب، إذ يمكن من خلالها هزيمة مجتمع بالكامل نفسيًا وزرع مشاعر اليأس والاستسلام، دون الحاجة إلى تدخل عسكرى مباشر، وهو ما يمثل تحولًا خطيرًا فى طبيعة الحروب الحديثة». وأشارت إلى أن تطور تقنيات «الديب فيك» أو التزييف العميق زاد من خطورة هذا التهديد، حيث بات بالإمكان إنتاج فيديوهات وصور مضللة يتم تداولها على نطاق واسع، ما يدفع قطاعات كبيرة من الجمهور إلى تصديقها وإعادة نشرها، دون التحقق من صحتها، الأمر الذى يؤدى إلى زعزعة الثقة وإضعاف الروح المعنوية لدى الشعوب. حرب الشاشات وتتابع حديثها بأن الحرب اليوم لم تعد فقط بالصواريخ والطائرات، بل بالشاشات والمنشورات والتغريدات.. وحذرت د. سارة من أن «إعلام المواطن أحيانًا دون قصد، يُستخدم ضد قضيته، حين يُسهم فى نشر فيديوهات من ساحات الحرب والانتهاكات، ما قد يمكن العدو من تحليل هذه المواد وكشف مواقع حساسة أو مخازن أسلحة أو تمركزات بشرية، ما يتطلب رفع وعى المجتمعات، خاصة فى مناطق النزاع، بعدم نشر مواقعهم أو محتوى قد يُستخدم عكسيًا ضدهم، حتى وإن كانت النية دعماً للقضية».