فكما أن القانون يعاقب المحرّض على الجريمة بنفس عقوبة القاتل، فإن الولاياتالمتحدة تتحمل مسئولية دفع المنطقة إلى حافة الهاوية. فى تقليد سنوى متبع، يقوم مكتب الاستخبارات الوطنية الأمريكية بنشر تقرير لتقييم التهديدات التى تواجه الأمن القومى الأمريكى ونفوذه حول العالم، لتكون الأجهزة الأمريكية والمواطنون على علم بتلك التهديدات. التقرير يعد أحد أهم الوثائق الاستخباراتية التى تكشف النقاب عن الرؤية الأمريكية للأخطار المحدقة بها. التقرير يحدد الأعداء الرئيسيين ويصنف أولويات المواجهة، معتبرًا أن أى مساس بمناطق النفوذ الأمريكى هو اعتداء صريح على الأمن القومى للولايات المتحدة. يصنف التقرير روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية كأبرز التهديدات للهيمنة الأمريكية العالمية. هذه الدول لا تكتفى بتحدى المصالح الأمريكية فى نطاقاتها الإقليمية فحسب، بل تسعى لبناء أنظمة بديلة فى المجالات الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. التقرير صدر فى مارس الماضى، لكن استدعاء قراءته اليوم يُوضح الرؤية الاستخباراتية الأمريكية، ولماذا تقدم مساعدات عسكرية غير محدودة لتل أبيب لتنفيذ ضربات نوعية فى العمق الإيرانى، وعدم الضغط للوصول إلى حل سلمى للقضية الفلسطينية. التقرير يرى أن استمرار إيران فى تعزيز نفوذها الإقليمى وضمان بقاء نظامها من خلال الاعتماد على ترسانتها الصاروخية المتطورة وبرنامجها النووى المتنامى يشكل تهديدًا للنفوذ الأمريكى بالمنطقة. كما أن التوسع الدبلوماسى مع دول الجوار وأعداء الولاياتالمتحدة مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية يعد تهديدًا لا بد من قمعه.. ويرى التقرير أن إيران تقوم بتطوير أنظمة صاروخية ومسيرات تعمل على بيعها للدول المختلفة، وهو ما قد يؤدى إلى تهديد النفوذ الأمريكى، مع استخدام طهران مبيعات الأسلحة منخفضة السعر كأداة لتعزيز التحالفات العسكرية العالمية. أما أكثر ما يزعجهم فهو تطوير إيران لقدراتها السيبرانية الهجومية، مما يجعلها تهديدًا مستقبليًا لنفوذ «العم سام». التقرير يؤكد أن المرشد الأعلى خامنئى يحرص على تفادى مواجهة مباشرة وشاملة مع الولاياتالمتحدة وحلفائها. ويقول التقرير نصًا: «أى مواجهة كبرى مع إسرائيل أو أمريكا ستكشف حدود قدرات إيران العسكرية الحقيقية». أى أن الولاياتالمتحدة لديها قناعة بأن إيران لن تستطيع توجيه ضربة رادعة ردًا على أى هجوم كبير. الردع هنا يعنى قدرة على تدمير أهداف حيوية واستراتيجية. وفى سياق هذا التقرير، يمكن فهم الضربة الإسرائيلية التى استهدفت إيران منذ فجر الجمعة، ليتضح أن الضربات ليست من أجل وقف البرنامج النووى الإيرانى فقط، بل لحماية النفوذ والهيمنة الأمريكية، وأيضًا لمنح «الشيطان» نتنياهو قوة البطل الخارق الذى حارب على كل الجبهات. ويتوهم من يعتقد أن تل أبيب تستطيع بمفردها تنفيذ تلك الضربات النوعية التى رأيناها على إيران بدون آلة الحرب الأمريكية وقدرات التزود بالوقود فى الجو وطائرات الF-35 وحماية بطاريات الدفاع الجوى الأمريكية وغيرها. الطريق بات مفتوحًا وممهدًا لإسرائيل، كما لم يحدث من قبل. بعض الخبراء يشبهون ما حدث فى طهران بأنه «نكسة 67 إيرانية» بعد استهداف أهم القادة العسكريين وعلماء الذرة وتدمير منشآت نووية وأهداف استراتيجية. بعدها خرج نتنياهو مزهوًا كطاووس فى ليلة تزاوج ليزف الخبر إلى شعب الاحتلال. البعض الآخر يرى أن نتنياهو مخطئ وسيعيش «يوم كيبور 73»، حيث تمادى فى استفزاز عش الدبابير الإيرانى، كما أن الدولة الإيرانية ليست مجرد مليشيات محدودة القدرات تسقط بقتل قائد أو عشرة.. وخرج ترامب بالأمس يقول إن الضربات الإسرائيلية كانت أقوى 10 مرات مما توقع. كل الدلائل تقول إن الحرب ستستمر لعدة أسابيع وربما شهور. ختامًا، التقرير السنوى للتهديدات الأمريكية يرى قبل 3 أشهر أن منطقة الشرق الأوسط ستدخل مرحلة جديدة من عدم الاستقرار، فضلًا عن عدم وجود أفق لحل سلمى للقضية الفلسطينية. ويتوقع التقرير أن تبقى غزة قنبلة موقوتة، طالما أن واشنطن تُفضل «إدارة الأزمة» بدلاً من حلها جذريًا، خشية انهيار التوازنات الإقليمية لصالح إيران وحلفائها. التقرير الاستخباراتى الأمريكى نرى فيه بوضوح أن واشنطن ليست مجرد متفرجٍ على تصاعد العنف فى الشرق الأوسط، بل هى طرف فاعلٌ فى إشعال الأزمات وتغذية الصراعات. فكما أن القانون يعاقب المحرّض على الجريمة بنفس عقوبة القاتل، فإن الولاياتالمتحدة، بتمويلها غير المحدود للعدوان الإسرائيلى وتسهيلها الضربات ضد إيران، تتحمل مسئولية دفع المنطقة إلى حافة الهاوية. السياسات الأمريكية لا تهدف إلى تحقيق الاستقرار، بل إلى إدارة الفوضى بحسابات باردة لإضعاف الخصوم، وإطالة أمد الصراعات، وضمان بقاء المنطقة ساحةً مفتوحةً لتصفية الحسابات. إسرائيل هنا ليست سوى أداة تنفّذ المخطط، بينما تُمنح كبريت الحرائق من مخازن السلاح الأمريكية.