في الخامسة من صباح كل يوم، يكون "ميدان رمسيس" لا يزال يفرك عينيه من غبار الليل، لكن سرعان ما يتحوّل إلى جسدٍ يئن تحت وطأة آلاف الأقدام.. باعة جائلون يفترشون بضائعهم على الأرصفة، وطلاب وموظفون وأصحاب حاجات قادمون من الصعيد ومحافظات الوجه البحرى يتدافعون نحو محطة المترو، حاملين حقائبهم وأحلامهم بين زحام لا يرحم وموظفين قادمين من كل مكان.. فوق الأرض، تعلن صافرات القطارات وصول ركابٍ جدد، وتحت الأرض، أصوات عربات المترو تختلط بنداءات الباعة. هنا، حيث تلتقى أنفاس مصر كلها، تكتب حكاية ميدانٍ يحمل تاريخًا عتيقًا، ويُصارع حاضرًا مرهقًا. ميدان رمسيس ليس مجرد ملتقى طرق، بل شريان يربط أحياء القاهرة من "مصر الجديدة" إلى "شبرا"، ويُغذّيها بمزيد الحركة وإيقاع الحياة التى لا تتوقف عبر شوارع "غمرة" و"الفجالة" و"الجمهورية" وكلوت بك ما يتفرع عنهم. لكن هذا الشريان أصبح منذ سنوات طوال يُشبه الجسد المنهك ما بين مواقف عشوائية، وسيارات تتشبث ببعضها فى زحام لا ينتهى، وأصوات كلاكسات مزعجة تُذكّرنا بأن الوقت فى هذا المكان المتكدس لا يسير إلا بالكاد. حتى التمثال الشهير للملك رمسيس الثانى، الذى غادر الميدان فى عام 2006 هربًا من التلوث، ترك خلفه سؤالًا: هل يليق بميدانٍ عريق يحمل اسم واحد من أعظم ملوك مصر أن يتحوّل إلى كابوس مرورى؟! ◄ زحام تحت الأرض في عمق الأرض، حيث محطة مترو الشهداء، تتحرك الحياة بسرعةٍ أخرى، وأقدامٌ تسحق الأرصفة، وعربات تفرّغ حمولتها من البشر كالفيضان، فيما تُعلن الميكروفونات قدوم قطارٍ من الإسكندرية، وفوق هذا المشهد، تُحاول مواقف الأقاليم استيعاب "ميكروباصات" تنتظر ركابا يغادرون العاصمة وآخرين جاءوا للتو لمباشرة أعمالهم وإنهاء مصالحم. المشهد كله يُشبه لوحةً لفنانٍ سريالى: بائعو "الفول والطعمية" وساندويتشات الكبدة ومحلات العصير يهللون لجذب انتباه الزبائن، وسائحون يحملون حقائبهم ويبحثون عن تاكسى يقلهم إلى فندقهم، ورجل مرور يحاول تهدئة الزحام بصافرة منهكة. ◄ المباني التراثية المشروع الذى تقوده الدولة حاليًا لتطوير الميدان يهدف إلى إعادة "الوجه الحضارى" له، لكن التحديات أكبر من اختزالها فى إزالة مواقف أو توسعة طرق. المشكلة أعمق بكثير: كيف تُنظّم حركةَ مكانٍ يستقبل يوميًا أعدادًا هائلة من البشر تضاهى مدنًا كاملة؟ كيف تحافظ على تراث مبانيه الخديوية القديمة الراسخة على الأرض بين زحام كوبرى أكتوبر الذى يحلق من أعلى الميدان؟ الأسئلة تتدافع كما الناس والسيارات والركاب، لكن الأمل يبقى فى أن يتحول رمسيس إلى ميدان يليق باسمه وتاريخه، لا مجرد محطةٍ يتنفس فيها المصريون الصبر. يظل الزحام وتدفُق الناس والسيارات ملمحًا رئيسيًا ل"سُرة القاهرة" ربما حتى منتصف الليل، حين يبدأ الميدان فى التقاط أنفاسه كأنه يريح جسده المنهك استعدادًا ليومٍ آخر، وأضواء المحلات تُنير وجوهًا متعبة، وبائع صحف متجول يحصى أرباحه القليلة، بينما تُغلق محطة المترو أبوابها على آخر الركاب المتأخرين. هنا، حيث تلتقى كل طرق مصر، ينام الميدان ليستعد لغدٍ جديد.. ربما يحمل معه بصيصًا من الأمل فى التطوير الذى وعدت به الحكومة فى الفترة المقبلة. ◄ اقرأ أيضًا | الانتهاء منه قريبا.. ننشر تفاصيل تطوير ميدان رمسيس |خاص ◄ نموذج حضاري وفيما يتعلق بأعمال التطوير الجديدة للميدان، يقول محافظ القاهرة، الدكتور إبراهيم صابر: أعمال التطوير التى تنفذها الهيئة الهندسية للقوات المسلحة والشركة الوطنية للطرق، ستجعله نموذجًا حضاريًا متميزًا للتطوير ضمن مخطط تطوير القاهرة التاريخية الجارى تنفيذه، حيث سيودع المواقف العشوائية والازدحام المرورى والباعة الجائلين. تابع: ويجرى إنشاء موقف متعدد الطوابق مكون من 5 طوابق، لتجميع كل مواقف الميدان بمكان أرض الصوامع التى تقع أمام محطة مصر بجوار كوبرى الليمون، بالإضافة لموقف القللى القديم، كما سيتم تخصيص الطابق الأرضى بالموقف متعدد الطوابق، ليكون سوقًا يضم المحال والباعة الموجودين بالميدان، فخطة تطوير المنطقة تشمل محيط محطة مصر، ضمن القرار الذى أعلنه رئيس الوزراء، وينص على إعلان منطقة ميدان رمسيس والسبتية وكوبرى الليمون كمنطقة إعادة تخطيط. ◄ عملية حتمية فيما يوضح أستاذ هندسة الطرق بجامعة عين شمس، الدكتور حسن مهدى، أن عملية التطوير أمر حتمى ومطلوب، فإذا نظرنا من الناحية البيئية والبصرية والمرورية، نجد أن الوضع قبل بدء التطوير كان يزداد تفاقمًا مع زيادة عدد المركبات وزيادة الزحام وغياب الرؤية الحضارية لمنطقة تعد من المناطق الأكثر أهمية فى القاهرة، فكان لا بد من أن يكون هناك تطوير بالإضافة للانسيابية المرورية غير المتحققة فى المنطقة، ما يتطلب أن يكون هناك مطلع جديد لكوبرى أكتوبر، لتحقيق انفراجة مرورية. وتابع: يشمل مخطط التطوير إنشاء جراج متعدد الطوابق، حيث سيستوعب عددًا كبيرًا للمركبات، كما تعمل الدولة على تطوير وسائل النقل العام والجماعى بالتوازى مع هذا التطوير، لجذب المواطنين لترك سياراتهم الخاصة واستخدام وسائل النقل الجماعى الحديثة، بالتالى نخفف أيضاً من الزحام المرورى، فمخطط التطوير سيحقق رؤية حضارية وبصرية لقاصدى مناطق وسط المدينة ومنطقة رمسيس، بالإضافة إلى ذلك سيشمل التطوير البعد المعمارى المحيط بالميدان. ◄ الرحلة التاريخية ل«سُرة القاهرة» تاريخيًا، عُرف ميدان رمسيس منذ ردم ترعة الإسماعيلية، التى كانت تلتقى بالترعة البولاقية عبر قنطرة الليمون، التى تم بناؤها بعد شق ترعة الإسماعيلية (شارع رمسيس حالياً) كى يعبرها المسافرون من وإلى محطة باب الحديد، وأطلق العامة عليها اسم قنطرة الليمون لإعادة إحياء الاسم القديم لقنطرة الليمون التى كانت تعبر الخليج الناصرى، الذى عُرف لاحقًا بطريق عباس وباب الحديد، ثم شارع الملكة نازلى، نسبة إلى والدة الملك فارق، ثم ميدان نهضة مصر، وأخيراً ميدان رمسيس، وحتى تخطيط وتنفيذ محطة بشتيل لتخفيف الضغط عن محطة مصر. وفي عام 1325، أمر السلطان الناصر محمد بن قلاوون بحفر «الخليج الناصرى»، وكان يبدأ من موضع غائر على النيل بمنطقة «جاردن سيتى حالياً» عند التقاء شارع الوالدة باشا (عائشة التيمورية حالياً) بشارع كورنيش النيل، ويتخذ الخليج مسار شارع مصر عتيقة (شارع قصر العينى حالياً). وفى عام 1816 أنشأ محمد على جسرا ممتدا من ناحية قنطرة الليمون على يمين السالك لطريق بولاق متصلاً إلى شبرا. وفي بداية القرن العشرين تم ردم الترعتين لصالح مشروع خطوط الترام الكهربائى، وفى عام 1889 تم إنشاء محطة سكك حديد «محطة كوبرى الليمون» لتربط ضواحى القاهرة، مثل المطرية والزيتون بوسط العاصمة، وهو الجسر الذى لا يزال قائماً إلى الآن. وكان ميدان رمسيس قرية صغيرة تسمى «أم دنين» تمركز فيها الفاتحون العرب وأنشأوا بها مسجداً سُمى مسجد «أولاد عنان»، الذى أعاد بناءه فى العصر الفاطمى الحاكم بأمر الله، وسُمى جامع «المقس»، وقد تم هدم المسجد من قبل الفرنسيين أثناء حملتهم على مصر، إلى أن أُعيد بناؤه فى عام 1990، وأصبح اسمه مسجد الفتح. وبأمر من محمد على باشا تحول ميدان رمسيس إلى متنزه، أما فى عهد عباس الأول فتم شق شارع رمسيس، الذى سُمى آنذاك شارع عباس الأول، ووصل الشارع إلى منطقة «الريدانية» (العباسية حالياً)، وفى عهد الخديو إسماعيل أُنشئت محطة سكك حديد مصر عام 1851، وصممها المعمارى البريطانى «أدون باتر» على الطراز العربى الإسلامى. وكانت ومازالت محطة باب الحديد الاسم الأقدم ل(محطة سكك حديد مصر حالياً)، المعروفة باسم محطة القاهرة أو رمسيس، وهى صرح عظيم له تاريخ معمارى وقيمة أثرية وتراثية، ومسجلة ضمن قائمة المبانى الأثرية فى مصر. وفى عام 1926 وُضع تمثال «نهضة مصر» للفنان المصرى العالمي محمود مختار وسط الميدان، وتغير اسم ميدان باب الحديد إلى (ميدان نهضة مصر)، وبعد قيام ثورة يوليو 1952 تم نقل تمثال نهضة مصر إلى منطقة حديقة الحيوان بالجيزة، وأصبح الميدان خاوياً، وأطلق عليه آنذاك «باب الحديد» لوجود بوابة حديدية كبيرة محيطة بالميدان، ورغم إزالة تلك البوابة عام 1798، فإن الاسم التصق بالمحطة فترة كبيرة، وترجع تسميته ب»باب الحديد» إلى أحد أبواب سور صلاح الدين الأيوبى الذى لم يكتمل، وموقعه على وجه التحديد كان عند مدخل شارع كلوت بك حالياً، وكان شبيهاً ببوابة الفتوح، وقد هُدم باب الحديد ومعظم سور صلاح الدين الأيوبى عام 1847 بأمر محمد على باشا. وظل الشارع على اسم باب الحديد حتى عهد الملك فاروق الأول، حيث تم تغيير اسم الشارع إلى (الملكة نازلى) نسبة إلى والدة الملك فاروق الأول، وفى عام 1955 تم وضع تمثال الملك «رمسيس الثانى» وسُمى الشارع والمنطقة باسم «ميدان رمسيس»، واستقر المكان على اسم شارع رمسيس وميدان رمسيس حتى الآن، على الرغم من رحيل رمسيس الثانى عن الميدان.