لم يكن تصريح الموساد الإسرائيلى عن تنفيذ عملية «الأسد الصاعد» مجرَّد تسريب استخباراتى عابر، بل إعلان صريح عن دخول مرحلة جديدة من الحرب، أكثر خطورة من ضربات الطيران وأكثر تعقيدًا من الاشتباك عبر الوكلاء أن تُنشئ إسرائيل قاعدة طائرات مُسيَّرة متفجرة على بعد كيلو مترات من طهران، وأن تُستخدم هذه القاعدة لتنفيذ ضربات نوعية داخل المنشآت الإيرانية ذات الطبيعة الاستراتيجية، هو تطور لا يُمكن وصفه إلا بالزلزال الأمنى، لا لإيران فحسب، بل للمنطقة كلها. أن يُعلن عن مثل هذا الاختراق بهذا القدر من التفصيل فى هذا التوقيت تحديدًا، ليس استعراضًا للعضلات، بل رسالة مباشرة ومزدوجة: الأولى موجَّهة لإيران ومفادها أن الداخل الإيرانى لم يعد مُحصنًا، والثانية للمجتمع الدولى، تقول فيها إسرائيل إنها تملك اليد الطولى أمنيًا، فى زمنٍ بدأت فيه شرعيتها السياسية تتآكل بفعل ما جرى فى غزة. لكن السؤال الأكثر خطورة الذى يفرض نفسه اليوم: كيف استطاع الموساد بناء قاعدة للطائرات المسيَّرة فى قلب طهران دون أن يُكشف؟ للإجابة، لا بد من العودة إلى أساس العقلية الاستخباراتية الإسرائيلية، التى تُبنى على مبدأ «التحلل داخل الخصم»، لا فقط التجسُّس عليه؛ أى أن الموساد لا يعمل من خارج حدود الأعداء فحسب، بل يعمل على زرع خلايا دائمة وهادئة تتنفس من هواء النظام نفسه. التجربة الإسرائيلية مع إيران ليست جديدة، وقد سبق للموساد أن نفَّذ عمليات اغتيال لعلماء نوويين فى شوارع طهران، ونجح فى تهريب وثائق نووية كاملة من منشآت معزولة، لكن المختلف هذه المرة أن الحديث لم يكن عن عملية اختراق «لحظى»، بل عن بنية تحتية استخبارية كاملة أُقيمت داخل إيران، احتاجت إلى سنوات من البناء، ونجحت فى تجاوز كل طبقات الكشف والتفتيش والمراقبة. هنا لا نتحدَّث عن طائرات انتحارية هاجمت أهدافًا من خارج الحدود، بل عن قاعدة محلية، جُهزت ونُظّمت وشُغّلت من داخل إيران، وبحسب المصادر، فقد تم تهريب المكونات على مراحل عبر منافذ غير مرصودة، وباستخدام خلايا نائمة على علاقة بعصابات تهريب، وأُخفيت المعدات فى مركبات مدنية، وزُرعت فى مناطق قريبة من منشآت عسكرية، حتى اكتمل المشهد الذى لم تتخيله طهران، ولا حتى حرسها الثورى. السؤال الثانى الذى لا يقل أهمية هو: هل تمتلك إيران القدرة على الرد بنفس العمق؟ نظريًا، تمتلك إيران شبكة من الوكلاء تمتد من اليمن إلى سوريا ولبنان والعراق، ولها أذرع استخباراتية نشطة عبر «فيلق القدس»، لكنها عمليًا لا تملك نفس القدرة على زرع خلايا عميقة داخل إسرائيل بذات المستوى من الفاعلية، فبينما نجح الموساد فى تفكيك البنية الداخلية الإيرانية، فإن قدرة إيران على العمل داخل العمق الإسرائيلى تظل محدودة نسبيًا، وتُواجه بُنى أمنية محكمة وحتى فى الحالات النادرة، التى نفَّذت فيها طهران عمليات خارجية، فإن معظمها كان عبر وسطاء، وليس من خلال اختراق مباشر. والأكثر حساسية أن أى ردٍّ إيرانى موازٍ فى الداخل الإسرائيلى، لو حدث، قد يؤدى إلى تصعيد إقليمى شامل، وهو ما تخشاه طهران فى ظل التوترات الاقتصادية والسياسية، التى تُعانيها داخليًا. لذا، غالبًا ما ترد إيران عبر مناطق النفوذ الهشَّة، كضرب قواعد أمريكية فى العراق، أو استهداف مصالح إسرائيلية فى البحر الأحمر، وهى تحركات رغم رمزيتها، لا تُوازى ما نفَّذه الموساد فى قلب العاصمة. لكن السؤال الأعمق، الذى يتجاوز حدود هذه الضربة إلى ما بعدها، هو: هل دخلنا بالفعل عصر «حرب الجواسيس العلنية»؟ الإجابة تتطلب فهمًا لطبيعة التحولات؛ لقد انتهى زمن الحروب التقليدية الكبيرة، وحلَّ مكانه نمط جديد من الصراع، تُدار فيه الحروب بالأقمار الصناعية، والطائرات المسيَّرة، والهجمات السيبرانية، والعمليات السرية، التى تتجنَّب المواجهة المباشرة، نحن لا نتحدَّث عن قصف تقليدى، بل عن نموذج إسرائيلى واضح: نَضرب دون أن نُرى، ونُسقِط دون أن نُسقَط. أما داخل إيران، فلم تكن الصدمة أمنية فقط، بل سياسية أيضًا فالهزة التى أحدثتها الضربة الإسرائيلية تسللت مباشرة إلى أعصاب النظام، وفتحت باب التشكيك فى أداء المؤسسات السيادية، وعلى رأسها الحرس الثورى هذه المؤسسة التى لطالما قدَّمت نفسها باعتبارها خط الدفاع الأول عن الجمهورية، وجدارها الصلب فى مواجهة الاختراقات، وجدت نفسها فى موقع المساءلة لا القيادة، فأن تُنشأ قاعدة مسيَّرات إسرائيلية قُرب طهران، دون رصد أو تعطيل، يعنى ببساطة أن الشبكة الأمنية فقدت جزءًا أساسيًا من احترافيتها أو ولائها أو يقظتها، وهو ما لن يمر فى الداخل دون تَبِعات. فى مثل هذه اللحظات من الانكشاف، يتقدَّم المتشددون سريعًا نحو الواجهة، مُسلحين بخطاب الانتقام، ومطالبين بإعادة تعريف «الردع الإيرانى» بما يتجاوز التصريحات والتنديدات، هم يُدركون أن الرأى العام الداخلى، المُتعب والمُستنزف، قد لا يصدق أن الصمت قوة، وأن «ضبط النفس» حِكمة، ولهذا فإن أصواتًا مؤثرة داخل الحرس الثورى ومؤسسات صُنع القرار بدأت تميل إلى إعادة تموضع استراتيجى يشمل الحسم فى الداخل، وتصعيدًا مدروسًا فى الإقليم، وربما تغيير قواعد الاشتباك مع إسرائيل، حتى لو عبر الوكلاء فى ساحات أكثر مرونة. لأن بقاء الصورة الراهنة، فى نظرهم، يعنى قبول الهوان. لكن النظام الإيرانى يُواجه معضلة مركَّبة: فهو من جهة يحتاج إلى ترميم صورته داخليًا، بإجراءات تُوحى بالقوة وتُعيد الانضباط داخل أجهزته، ومن جهة أخرى يخشى أن يؤدى أى رد عسكرى مباشر إلى استدراج حرب واسعة النطاق تفوق قدراته الحالية. من هنا، يبدو أن التيار المتشدد قد يجد فى الأزمة فرصة لإعادة الهيمنة داخل الدولة، ليس فقط على حساب المعتدلين، بل على حساب المكونات المؤسسية نفسها، وكلما طالت لحظة الارتباك، زادت شهية الصقور للانقضاض، تحت شعار: إذا سقط الجدار، فلن يبنيه إلا مَن لا يساوم. ما جرى فى طهران يعكس روح هذا العصر، الذى يُعاد فيه تعريف «الردع» بعيدًا عن حدود المدفعية والطيران، ويُبنى فيه الأمن القومى على قدرة الدولة على أن تُصيب دون أن تُصاب، أو أن تُباغت دون أن تُدان. هذا الشكل من الحروب رغم أنه أقل صخبًا من الدبابات، إلا أنه أكثر فتكًا على المدى البعيد، لأنه يُضعف ثقة الشعوب فى منظوماتها، ويزرع فى قلب النُظم الأمنية فكرة «الاختراق الدائم». الأهم من كل ذلك، أن هذه العمليات تُنقل من مستوى السر إلى العلن، وهذا ما يُغيِّر طبيعة المعادلة بالكامل، فحين تُعلن إسرائيل عن تنفيذ هذه العمليات بهذه التفاصيل، فهى لا تبحث عن الغموض، بل عن الترويع، إنها لا تهدف فقط إلى ضرب المواقع، بل إلى ضرب الثقة، وزعزعة الشعور بالسيطرة داخل النظام الإيرانى نفسه، إنها لا تضرب رأس القيادة فقط، بل تضرب فكرة «السيادة» ذاتها. فى المحصلة، ما حدث ليس فقط نصرًا استخباراتيًا لإسرائيل، بل لحظة انكشاف كبرى لإيران، واختبار لقدرتها على احتواء الصدمة أو الانزلاق إلى رد فعل غير محسوب، لكن الأهم، أن الشرق الأوسط كله يدخل الآن مرحلة جديدة من الحرب، حرب بلا جنرالات، وبلا حدود واضحة.