فى كل مرة يندلع فيها حريق، لا تلتهم النيران الجدران فقط، بل أحيانًا تأخذ معها أرواحًا، وأحلامًا، ومنازل كانت تنبض بالحياة.. دخان كثيف يتصاعد، صافرات الإنذار تتأخر، وصرخات تنادى على النجدة فى الوقت الضائع، تتكرر المشاهد، وتتشابه النهايات، ويبقى السؤال مُعلّقًا فى الهواء: هل اندلع الحريق بسبب قَدَرٍ محتوم، أم بفعل إهمال يمكن تلافيه؟ أم بفعل فاعل لإخفاء شىء ما بالمخازن، حيث كشفت الإحصائيات أن شهر مايو من كل عام هو الأعلى فى حوادث الحرائق، وربط البعض بين ذلك وبين موسم الجرد السنوى للمخازن قبل نهاية السنة المالية من المخازن العشوائية إلى الورش تحت السكن، أو المحال التى تبحث اشتراطات السلامة المهنية، تتساقط الضحايا وسط مشاهد نكاد نحفظها عن ظهر قلب.. «الأخبار» تفتح فى هذا التحقيق أبواب الحرائق التى لم تُغلق، وتنقب فى حقيقة اشتراطات السلامة، هل متوافرة بالفعل أم مجرد أوراق رُخصة صدرت بلا فحص حقيقى؟ خبراء: غياب الوعى واشتراطات السلامة أبرز الأسباب الوقاية خط الدفاع الأول.. وللحماية إجراءات كثيرة تراجع دور الرقابة.. والعقوبات تحتاج إلى تغليظ فى شارع صغير بمدينة المنصورة، كان سعد المحمدى، ابن الخامسة والعشرين، يعمل فى مخزن ملابس رياضية ومواد بلاستيكية.. شاب بسيط كان يحلم بتجميع مبلغ يكفى لفتح محل صغير يحمل اسمه، لكن القدر رفض ذلك، إذ لقى حتفه بعد حريق مروع التهم المحزن الذى يعمل به. «كان دايمًا بيضحك.. حتى فى أصعب لحظاته، عمره ما اشتكى»، بهذه الكلمات بدأت لميا المحمدى، شقيقة سعد، حديثها، بصوت مكسور وهى تحاول لملمة بقايا وجعها بعد رحيل أخيها الأصغر فى الحريق العام الماضى. يوم الحريق، وبينما كانت ألسنة اللهب تبتلع المكان، سقط سعد صريعًا، ولم يستطع أحد إنقاذه، مات وهو يعمل، «كان يحب الحياة، بس الحياة ما حبتهوش»، تقولها لميا قبل أن تنهار فى البكاء. الحريق الذى اندلع فى المخزن لم يُخلِّف فقط رائحة البلاستيك المحترق والدخان، بل خَلَّف وراءه قلوبًا مكسورة وأحلامًا انتهت قبل أن تبدأ. فخ قاتل لم يكن يتخيل أن تتحول دقائق الليل إلى مأساة تسرق منه روحه قبل بيته.. حسين، ربّ أسرة يقطن بأحد شوارع شبرا، كان نائمًا كعادته بجوار زوجته وابنتيه، قبل أن توقظه النيران التى اندلعت فى ورشة أسفل العقار منذ ما يقارب ال 3 سنوات. «استيقظنا على صراخ وجدران تغلى بالدخان»، يحكى حسين، وصوته يختنق كما اختنقت صغيرته، كان الحريق قد تمدد من الطابق الأرضى إلى شقته، ليحولها فى لحظات إلى فخ قاتل، إذ حاول إنقاذ أسرته، بحث عن زوجته وابنتيه وسط الظلام والهواء الثقيل برائحة الحريق، لكنه حين وصل إلى طفلته الصغيرة، كانت قد فارقت الحياة. «وجدتها ساكنة.. ملامحها هادئة وكأنها نائمة، لكنها لم تكن كذلك»، يقول حسين، وعيناه لا تزالان معلقتين عند اللحظة التى حمل فيها جسدها بين يديه، بينما الدخان يتصاعد من حوله. لا تعد هذه الحوادث سوى نماذج بسيطة عن مآسى النيران، فوفقًا للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء، بلغ عدد حوادث الحريق على مستوى الجمهورية 47 ألف حادثة حريق عام 2024، مقابل 45435 حادثة عام 2023، بنسبة ارتفاع قدرها 3.2%. ووفقًا للحالة الجنائية، احتل الحريق العارض المرتبة الأولى لحوادث الحرائق بعدد 9814 حادثة بنسبة 20.9%، يليه الحريق بسبب الإهمال بعدد 4886 حادثة بنسبة 10.4% خلال عام 2024. وشَكَّلت النيران الصناعية «مثل أعقاب السجائر، أعواد الكبريت، مواد مشتعلة، شماريخ» السبب الرئيسى للحريق بعدد 14817 حادثة بنسبة 31.6%، يليها الماس الكهربائى أو الشرر الاحتكاكى بعدد 8٫428 حادثة بنسبة 18% من إجمالى مسببات الحريق. فيما جاءت الأرض الفضاء «القمامة والمخلفات»، فى مقدمة أماكن حدوث الحرائق بعدد 18467 حادثة بنسبة 39.4%، تليها المبانى السكنية بعدد 17969 حادثة بنسبة 38.3% من إجمالى حوادث الحريق. ووصل عدد المتوفين من ضحايا حوادث الحريق 232 متوفى عام 2024، مقابل 239 متوفى عام 2023، بنسبة انخفاض قدرها 2.9%، بينما بلغ عدد المصابين 831 مصابًا عام 2024، مقابل 812 مصابًا عام 2023، بنسبة ارتفاع قدرها 2.4%. مكافحة الحرائق ويؤكد اللواء علاء عبدالظاهر، مساعد وزير الداخلية للحماية المدنية الأسبق، أن اشتراطات السلامة ومكافحة الحرائق ليست رفاهية أو إجراءً شكليًا، بل تمثل خط الدفاع الأول لحماية الأرواح والممتلكات، مشددًا على أنها ضرورة لا يمكن التهاون بها. ويقول اللواء عبدالظاهر فى تصريحات ل «الأخبار»، إن الحريق لا يُفرِّق بين محل تجارى أو مصنع أو مؤسسة أو حتى وحدة سكنية، فمجرد مصدر حرارى بسيط، مع توافر العناصر المساعدة على الاشتعال، قد يؤدى إلى كارثة، خاصة فى ظل غياب الوعى وانتشار المواد القابلة للاشتعال. ويشير إلى أهمية الالتزام بالاشتراطات المنصوص عليها فى الكود المصرى، لاسيّما من قبل القائمين على تنفيذ خطط الإطفاء والإخلاء، مؤكدًا أن من أبرز هذه الاشتراطات، توافر طفايات الحريق المناسبة لطبيعة المواد المحترقة-سواء كهربائية أو كيميائية-إلى جانب أجهزة الإنذار المبكر، ومصدر مياه ثابت، و»حنفيات حريق» مخصصة لخط الإطفاء. ويشدد على ضرورة وجود وسائل إطفاء يدوية، ومخارج طوارئ واضحة وخالية من العوائق أو المواد المُخزنة، فيما يُعرف ب«مسالك الهروب»، كما حذر من خطورة تخزين المواد القابلة للاشتعال بالقُرب من مصادر حرارة أو لهب.. ويوضح أن دور قطاع الحماية المدنية لا يقتصر على التدخل فى أوقات الطوارئ، بل يشمل أيضًا تدريب الأفراد على كيفية التصرف عند وقوع حريق، وتوعية مختلف شرائح المجتمع، من ربات البيوت إلى طلاب المدارس والعاملين فى المصانع والمحال التجارية، من خلال نشرات توعوية تُوزع دوريًا. ويشير إلى أن الجهات الرقابية المعنية تشمل الجهة المانحة للتراخيص-وعلى رأسها الحماية المدنية-التى لا تصدر رخصة تشغيل لأى منشأة إلا بعد التأكد من وجود خطة وقائية كاملة لمكافحة الحريق، وتشترك فى هذه الرقابة جهات عدة، من بينها الوحدات المحلية، الأحياء، هيئة التنمية الصناعية، ووزارة الصحة.. وفيما يتعلق بنصائح الوقاية، أوضح اللواء عبدالظاهر، أن السيطرة على الحريق فى مراحله الأولى ممكنة فقط من خلال ما وصفه ب «القمع المبدئي»، باستخدام الطفاية خلال ال 45 ثانية أو الدقيقة الأولى من اندلاع الحريق. أسباب متعددة وفيما يتعلق بترتيب المحافظات، جاءت محافظة القاهرة بالمركز الأول فى عدد حوادث الحريق ب6288 حادثة بنسبة 13.4%، تليها محافظة الغربية بعدد 3990 حادثة بنسبة 8.5%، بينما احتلت محافظة شمال سيناء المرتبة الأخيرة بعدد 189 حادثة بنسبة 0.4% من إجمالى الحوادث، وفقًا لإحصائية الجهاز. ويربط البعض ازدياد معدلات الحرائق بشهور فصل الصيف، ووفقًا لإحصائية «التعبئة والإحصاء»، سجل شهر مايو أعلى عدد من حوادث الحريق ب 5468 حادثة بنسبة 11.7%، يليه شهر يونيو بعدد 4883 حادثة بنسبة 10.4%، فى حين سجل شهر فبراير أقل عدد ب2916 حادثة بنسبة 6.2% من إجمالى حوادث الحريق. وفى هذا الصدد، يقول المهندس محمد شتلة، المدرب بالمؤسسة الثقافية العمالية وكبير ممثلى المعهد العربى لعلوم السلامة، إن الحديث عن أسباب ازدياد الحرائق والحوادث خلال الفترة الأخيرة، سواء بالورش أو المخازن أو المحال التجارية، يقتضى الإشارة إلى أهم الأسباب الواقعية التى أدت إلى ذلك، مؤكدًا أن من أبرز هذه الأسباب غياب الوعى، وافتقاد ثقافة الوقاية من مخاطر الحرائق، فضلًا عن فُقدان المعرفة بطرق التعامل الصحيحة فى حال وقوع الحريق. ويضيف أن من بين الأسباب الأخرى، وجود كثير من المواد سهلة الاشتعال بالقُرب من الأجهزة والتوصيلات الكهربائية، والعبث أو إشعال النار بالقرب من الأماكن الخطرة، أو حتى التصرفات التى تبدو «حُسن نية»، مثل رمى أعقاب السجائر، يمكن أن تؤدى إلى كوارث. ويشير شتلة، إلى أن السبب الرئيسى وراء ازدياد الحرائق خلال الآونة الأخيرة، مقارنة بفترات سابقة، يرجع-من وجهة نظره-إلى حالة من اللغط وعدم الفهم لدى الكثيرين الذين «أساءوا الأدب مع سلامة الأرواح والممتلكات»، بحسب تعبيره، مضيفًا أن دور مفتشى السلامة والصحة المهنية قد تحول خلال الفترة الأخيرة إلى مجرد رأى توجيهى فقط، متسائلًا: كم لجنة تم تشكيلها؟ وكم منشأة تم تفتيشها؟ وما طبيعة تلك المنشآت؟ الحماية المدنية بدوره، يؤكد المهندس خالد عبد الله، مستشار وزير العمل للسلامة والصحة المهنية، أن ازدياد الحرائق خلال الفترة الأخيرة، يُعزى إلى عدم امتثال المنشآت لتوفير اشتراطات السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل، إلى جانب عدم الالتزام باشتراطات الحماية المدنية، التى تُعد خط الدفاع الأول ضد نشوب الحرائق. ويوضح أن هذا الامتناع عن الامتثال غالبًا ما يكون ناتجًا عن عزوف أصحاب المنشآت عن تقنين أوضاعهم، والابتعاد عن العمل تحت مظلة قوانين التراخيص، التى تُلزمهم بتوفير اشتراطات السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل والحماية المدنية، قبل البدء فى ممارسة النشاط. ويؤكد عبد الله، أن الوزارة تعمل حاليًا بكل جهد على الانتهاء من الخطة الاستراتيجية للسلامة والصحة المهنية، والتى تُعد من أهم الأولويات فى المرحلة الراهنة، ومن بين أهداف ومحاور هذه الخطة، تعزيز ثقافة السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل بين جميع فئات المجتمع، مشددًا على أن ترسيخ هذه الثقافة الوقائية سيُساهم بشكل مباشر فى الحد من حوادث العمل، وعلى رأسها حوادث الحريق. وعن جهود التأكد من الاشتراطات والتدريب الخاص بها، يقول مسعد جمعة، رئيس المركز القومى لدراسات السلامة والصحة المهنية وتأمين بيئة العمل، إن اشتراطات السلامة تختلف من منشأة لأخرى، فمثلًا المنشآت التى تعمل فى مجال الكيماويات تخضع لاشتراطات تختلف عن تلك المعمول بها فى قطاعات أخرى مثل المقاولات، وذلك بحسب طبيعة النشاط والمخاطر المرتبطة به. ويوضح أن من بين الأدوار الرئيسية التى يقوم بها المركز، تدريب العاملين وأصحاب المنشآت على تلك الاشتراطات، والعمل على رفع الوعى وزيادة الثقافة فى هذا الشأن، فضلًا عن تنظيم تدريبات خاصة بخطط الطوارئ، مثل الإخلاء فى حال نشوب حريق أو حدوث أى طارئ آخر، مُضيفًا أن المركز يهتم أيضًا بالتعريف بالمخاطر الميكانيكية، أو تلك الناتجة عن الحفر العشوائى، وما قد تسببه من مشكلات أو حوادث، ويُمنح فى نهاية التدريب شهادة تؤكد اجتياز المتدرب للبرنامج. ويشير جمعة، إلى أن وزارة العمل تجهز الاستراتيجية الوطنية للسلامة والصحة المهنية، تنفيذًا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسى، والتى تستهدف تحقيق اشتراطات السلامة والصحة المهنية ونشر ثقافتها فى مختلف مواقع العمل والإنتاج، لحماية جميع المواطنين، سواء من العاملين أو أصحاب العمل أو الجمهور. المسئولية القانونية وفيما يتعلق بالمسئولية القانونية لحوادث الحرائق، وما ينتج عنها من ضحايا أو خسائر، يقول إيهاب الأطرش، المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة، إن القانون المصرى يتعامل مع الحوادث الناتجة عن الحرائق-سواء خلفت إصابات أو حالات وفاة-باعتبارها من جرائم الخطأ، لا العمد، وهو ما يندرج تحت مُسمى «القتل الخطأ» أو «الإصابة الخطأ»، وفقًا لما تنص عليه مواد قانون العقوبات. ويوضح أن تلك الجرائم تُكيَّف قانونيًا على أنها ناتجة عن الإهمال أو الرعونة، تمامًا كما يحدث فى حوادث الطرق، حين يتسبب الإهمال فى عدم اتخاذ إجراءات الحماية أو إهمال أعمال الصيانة الدورية فى اندلاع الحرائق وما يترتب عليها من خسائر بشرية ومادية. مؤكدًا أن غياب هذا الدور الرقابى، وعدم وجود عقوبات أو غرامات أو حتى قطع مرافق مؤقت كإجراء ردعى، يجعل المنشآت تستهتر بملف السلامة.