إعداد: بسمة ناجي فازت الكاتبة والمحامية والناشطة الهندية بانو مشتاق بجائزة بوكر الدولية لعام 2025 عن مجموعتها القصصية «مصباح القلب» وهذه هى المرة الأولى التى تُمنح فيها جائزة بوكر الدولية لمجموعة قصص قصيرة. أُختيرت قصص «مصباح القلب» الاثنى عشر من حوالى خمسين قصة نُشرت ضمن ست مجموعات قصصية كتبتها بانو مشتاق على مدار الثلاثين عامًا الماضية منذ عام 1990، وترجمتها الهندية ديبا بهاستى عن لغة مشتاق الأصلية، الكانّادا، وهى اللغة الرسمية لولاية كارناتاكا التى تقع جنوب غرب الهند. وقالت بهاستي، التى أصبحت أول مترجمة هندية تفوز بجائزة بوكر الدولية، أنها تأمل فى أن يشجع هذا الفوز المزيد من الترجمات من وإلى لغة الكانّادا ولغات جنوب آسيا الأخرى. تروى «مصباح القلب» قصصًا لحياة النساء فى مجتمع أبوي. ومن بين جميع العناوين المدرجة فى القائمة القصيرة، اعتُبرت «مصباح القلب» كتابًا لافتًا ولكنه لم يكن بالمستوى المتوقع للمنافسة، إذ قلل الكثيرون من فرص فوزها بالجائزة لأنها مجموعة قصصية. أما بالنسبة لأعضاء لجنة التحكيم، فقد تداولوا لسِت ساعات، وتجادلوا قبل أن يتفقوا بالإجماع على «مصباح القلب». أشاد الكاتب الانجليزى ماكس بورتر، رئيس لجنة تحكيم جائزة بوكر الدولية لهذا العام بالمجموعة لكونها استثنائية من حيث توجهها السياسي، ورُغم مسارعته إلى تعديل بيانه لتوجيهه بعيدًا عن النظر إلى المجموعة بعدسة الأدب النضالي، أو الإشارة إلى دعم المُحكمين للكتب التى تتفق مع مواقفهم الاجتماعية والسياسية أو ميولهم أو قضاياهم؛ إلا أن تصريحه يكشف حتمًا عما جعل القائمتين الطويلة والقصيرة لهذا العام محبِطتَين للكثيرين. يبدو أن تقييمات لجنة التحكيم لهذا العام قد حملت التزامات أعضائها بالدفاع عن العدالة الاجتماعية. فقد أحيطت كلٌّ من القائمتين الطويلة والقصيرة بغطاء من التعليقات الاجتماعية التى فاقت التقييم الأدبى البحت. لا يعارض هذا أن العديد من التهانى لبانو مشتاق والمترجمة ديبا بهاستى كانت فى محلها، لكون المجموعة عمل استثنائى يُجسد الحياة اليومية للنساء والفتيات فى المجتمعات المسلمة بجنوبالهند، كما حظيت ترجمة بهاستى للقصص بإشادة خاصة نُشرت هذه القصص أصلًا باللغة الكانادية بين عامى 1990 و2023، ونالت الإشادة لروحها الفكاهية اللاذعة والمرحة تقدم القصص التوترات العائلية والمجتمعية التى شهدتها مشتاق خلال سنوات عملها كصحفية ومحامية، حيث دافعت بلا كلل عن حقوق المرأة وظلت ناشطة معارضة لجميع أشكال الاضطهاد الطبقى والديني. أشادت لجنة التحكيم بشخصياتها ووصفوها بأنها «صور مذهلة للصمود والصلابة». بأسلوبٍ يجمع بين الفكاهة والحيوية والبلاغة والمشاعر والنقد اللاذع، تُبرِز مشتاق، ككاتبةٍ مذهلة ومراقبة للطبيعة البشرية، آفاقًا عاطفية مُربكة بأسلوبٍ ثري. لاقت أعمالها استنكارًا من الأوساط المحافظة، إلا أنها نالت أعرق الجوائز الأدبية فى الهند. لكن فوزها بجائزة بوكر الدولية سلّط الضوء بشكل أكبر على حياتها وإبداعها الأدبي، الذى يعكس العديد من التحديات التى تواجهها النساء فى قصصها، والناجمة عن التحفظ الدينى والأبوية المتجذرة فى المجتمع. ربما كان هذا الوعى الذاتى ما ساعد مشتاق على صياغة أكثر الشخصيات إنسانيةً وخطوط الحبكة الأكثر دقةً. فى ثقافة أدبية تُقدّر المشاهد المُبهرة، تتمسك قصص «مصباح القلب» بحياةٍ تُعاش على الهامش، وخيارات لا تُلاحَظ، وإبراز القوة اللازمة للمثابرة فحسب. هذه هى قوة بانو مشتاق الهادئة، كما ورد فى مراجعة للكتاب نشرت فى صحيفة «إنديان إكسبريس». وفى خطاب قبولها الجائزة، شكرت مشتاق القراء الذين منحوا كتابتها الفرصة لتصل إلى قلوبهم. وقالت: «وُلدت هذه القصص من إيمان راسخ بأن أى قصة ليست صغيرة؛ وأن كل خيطٍ فى نسيج التجربة الإنسانية يحمل ثِقل الكل». وأضافت: «فى عالم يحاول تفريقنا دومًا، يبقى الأدب أحد آخر المساحات المقدسة التى تُمكننا من العيش داخل عقول بعضنا البعض، ولو لبضع صفحات فحسب». صرحت ماناسى سوبرامانيام، رئيسة تحرير دار نشر بنجوين إنديا، ناشرة الكتاب فى الهند، بأن الجائزة تُمثل فوزًا مهمًا للأدب الإقليمي «بعد الفوز التاريخى لرواية «مقبرة الرمال» عام 2022، يُذكرنا فوز «مصباح القلب» هذا العام بضرورة توجيه اهتمامنا الكامل نحو الأدب بلغات الهند المتعددة». نشأت مشتاق فى بلدة صغيرة بولاية كارناتاكا الجنوبية فى حيّ مسلم، ومثل معظم الفتيات من حولها، درست القرآن الكريم باللغة الأردية فى المدرسة. لكن والدها، الموظف الحكومي، أراد لها المزيد، وفى سن الثامنة، ألحقها بمدرسة راهبات حيث تعلمت بلغة التدريس الرسمية للولاية - الكانّادا. اجتهدت مشتاق لتتقن الكانّادا، حتى صارت هذه اللغة الغريبة هى اللغة التى اختارتها للتعبير الأدبي، فبدأت الكتابة وهى لا تزال فى المدرسة، واختارت الالتحاق بالجامعة حتى مع زواج قريناتها وتفرغهن لتربية أطفالهن. استغرق الأمر عدة سنوات قبل أن تنشر «مشتاق» أول أعمالها الأدبية، وقد حدث ذلك خلال مرحلة صعبة للغاية من حياتها. نُشرت قصصها القصيرة فى مجلة محلية بعد عام من زواجها من رجل اختارته بنفسها فى سن السادسة والعشرين، إلا أن سنوات زواجها المبكرة اتسمت أيضًا بالصراع والخلافات - وهو أمر تحدثت عنه صراحةً فى عدة لقاءات. ففى مقابلة مع مجلة فوج، قالت: «لطالما رغبت فى الكتابة، لكن لم يكن لديّ ما أكتب عنه، إذ طُلِب منى فجأةً، بعد زواج عن حب، ارتداء البرقع وتكريس نفسى للأعمال المنزلية. أصبحت أمًا تعانى من اكتئاب ما بعد الولادة فى سن التاسعة والعشرين». فى مقابلة أخرى مع مجلة «ذا ويك»، تحدثت عن كيف أُجبرت على العيش حبيسة جدران منزلها الأربعة، ثم تحررت بفعل تحدٍ صادم. «فى إحدى نوبات يأسي، سكبتُ بنزينًا أبيض على جسدي، لإشعال النار فى نفسي. لحسن الحظ، أحس زوجى بذلك فى الوقت المناسب، فعانقني، وأخذ علبة الكبريت. توسل إليّ، ووضع طفلنا عند قدميّ قائلًا: «لا تتخلّى عنا». تعكس شخصياتها النسائية فى قصص «مصباح القلب»، روح المقاومة والصمود هذه. فى الأدب الهندي، غالبًا ما تُصوَّر النساء المسلمات على أنهن مجرد استعارات - معاناة صامتة أو مجازات فى حجج أخلاقية لشخص آخر. ترفض مشتاق كلا الأمرين. وفقًا لمراجعة للكتاب فى صحيفة «ذا إنديان إكسبريس، شخصياتها تصمد، وتتفاوض، وتقاوم أحيانًا، ربما بطرقٍ لا تجذب العناوين الرئيسية للصحف، لكن بطرق تُؤثر على حيواتهن. عملت مشتاق كمراسلة لصحيفة شعبية محلية بارزة، وارتبطت أيضًا بحركة «باندايا» - التى ركزت على مناهضة الظلم الاجتماعى والاقتصادى من خلال الأدب والحِراك. تركت الصحافة بعد عِقدٍ من الزمان، ثم عملت كمحامية لإعالة أسرتها. خلال مسيرة مهنية حافلة امتدت لعقود، نشرت عددًا كبيرًا من الأعمال؛ بين ست مجموعات قصصية، ومجموعة مقالات، ورواية. لكن كتابتها جعلتها أيضًا هدفًا للكراهية. فى مقابلة مع صحيفة «ذا هندو»، تحدثت عن تلقيها مكالمات تهديد هاتفية عام 2000 بعد أن أعربت عن رأيها الداعم لحق النساء فى الصلاة فى المساجد. صدرت ضدها فتوى وحاول رجل مهاجمتها بسكين قبل أن يتغلب عليه زوجها. لكن هذه الحوادث لم تقلِق مشتاق، التى واصلت الكتابة بصدق لاذع. فى تصريحها لمجلة ذا ويك، قالت مشتاق: «لطالما عارضتُ التفسيرات الدينية المتعصبة هذه القضايا محورية فى كتاباتى حتى الآن. لقد تغير المجتمع كثيرًا، لكن القضايا الجوهرية لا تزال كما هي. على الرغم من تطور السياق، لا تزال معاناة النساء والمجتمعات المهمشة مستمرة». حازت كتابات مشتاق على العديد من الجوائز المحلية والوطنية المرموقة، بما فى ذلك جائزة أكاديمية كارناتاكا ساهيتيا وجائزة دانا شينتامانى أتيمابي. وفى عام 2024، فازت الترجمة الإنجليزية لكتاب يضم خمس مجموعات قصصية لمشتاق نُشرت بين عامى 1990 و2012 - حَسينة وقصص أخرى - بجائزة. PEN للترجمة. وفى حوارها مع محررى موقع جائزة بوكر، ذكرت مشتاق أن قصصها تدور حول النساء - كيف يُفرض عليهنّ من قِبل الدين والمجتمع والسياسة طاعةٌ مطلقة، تُنزل بهنّ قسوةً لا إنسانية، وتحولهنّ إلى مجرد تابعات، وأن الأحداث اليومية التى تُنشر فى وسائل الإعلام، والتجارب الشخصية التى مرّت بها، مصدر إلهامها. «يخلق الألم والمعاناة والحياة البائسة لهؤلاء النساء استجابةً عاطفيةً عميقة بداخلي، تدفعنى إلى الكتابة. عادةً ما أكتب مسودة أولى، ثم تكون المسودة الثانية هى النسخة النهائية. لا أخوض فى بحث موسع؛ قلبى هو مجال بحثي. كلما ازداد تأثير الحدث عليه، ازدادت كتابتى عُمقًا وعاطفية». وأضافت أن الحراكات التى شهدتها سبعينيات القرن الماضى فى كارناتاكا - مثل حركة الداليت، وحركة المزارعين، وحركة اللغة، وحركة التمرد، ونضالات النساء، والنشاط البيئي، والمسرح - كان لها تأثيرًا عميقًا عليها. كما منحها تفاعلها المباشر مع حياة المجتمعات المهمّشة، والنساء، والمهمّشين، إلى جانب تعبيراتهم، القوة للكتابة عنهم. أما ديبا بهاستى مترجمة «مصباح القلب» فهى كاتبة ومترجمة أدبية تقيم فى كوداغو، جنوبالهند. نُشرت مقالاتها الأدبية والنقدية فى الهند وحول العالم. تشمل ترجماتها المنشورة من الكانّادا رواية لكوتا شيفاراما كارانث ومجموعة قصص قصيرة لكوداجينا غوراما. حازت ترجمتها لقصص بانو مشتاق على جائزة. PEN للترجمة. وفى حديث لموقع جائزة بوكر، قالت ديبا بهاستي: «أرى الترجمة ممارسة غريزية من نواحٍ عِدة، كل كتاب يتطلب عملية مختلفة تمامًا. بالنسبة لقصص بانو، قرأتُ أولًا جميع أعمالها القصصية قبل اختيارى لمجموعة «مصباح القلب». كنتُ محظوظة لأنى حظيتُ بحرية اختيار القصص التى أردتُ ترجمتها، ولم تتدخل بانو فى طريقة عملى المنظمة والفوضوية». وأضافت، «جدتى هى من جعلتنى أرغب فى سرد القصص، ككاتبة ومترجمة. أحاول محاكاة شعور الدهشة الذى أثاره سردها فى نفسى ونقله للقراء، وآمل أن أفعل بالكلمة المكتوبة ما كانت تفعله بسهولة بيديها ووجهها وجسدها وهى تروى القصص». وعند سؤالها عن سبب جاذبية الروايات المترجمة لدى الجيل الجديد من قراء اللغة الإنجليزية، ذكرت الأثر المحتمل لوسائل التواصل الاجتماعى ومدى تأثر الجميع، ولو بشكل سطحي، بالثقافات الأخرى. «كثيرٌ ممن تقل أعمارهم عن الخامسة والثلاثين أمضوا حياتهم كلها تقريبًا على الإنترنت ولعلّ هذا الوعى المُبكر بالعالم المُختزل فى شاشاتهم الصغيرة، يُسهّل عليهم أيضًا الانفتاح على الأدب من مختلف اللغات والثقافات. بالإضافة إلى ذلك، وكما يقول أنطون هور، فإن قراءة الروايات المُترجمة تُضفى عليك جاذبية! أيّ شخصٍ دون الخامسة والثلاثين لا يرغب فى أن يكون جذابًا؟»