عبدالله داوستاشى بعد رحلة أسطورية إلى بلاد النوبة مع والدى وصديقى الفنان عصمت داوستاشى والتى قمنا بها بناء على رغبته، استمتعنا فيها بجمال الطبيعة هناك لاسيما جزيرة هيسة النوبية الساحرة، وتنفسنا عبق التاريخ حيث كنا نقيم أمام معبد فيله مباشرة، وتعرفنا على ناسها الطيبين واغتسلنا بماء النيل المقدس، وأثناء عودتنا فى قطار النوم يوم الإثنين 12 مايو 2025 رحل المستنير دادا كما كان يطلق على نفسه فى إحدى مراحله الفنية. رحل فى هدوء، كما كان يتمنى طوال حياته بدون ألم أو معاناة من هول الموت، فعلى مدار العشرين سنة الأخيرة من حياته كان عصمت داوستاشى يخشى من الموت، وكان يخبرنى مع كل معرض أو رحلة فنية أنها الأخيرة له، وأن الموت سوف يقتنصه بعدها، ولا يحدث ذلك ويستمر فى مخاوفه كلما أقبل على مشروع جديد وكأنه الأخير له فى هذه الحياة المؤلمة والشاقة.. ماعدا هذه الرحلة لم يقل لى أنها الأخيرة، ولم يذكر أنه سيموت بعدها كعادته، رحل متفائلاً ومتطلعاً للمزيد من المغامرات.. رحل ومعه خطط مستقبلية ومشاريع إبداعية كان يرغب فى تنفيذها. طاف مصر من جنوبها الى شمالها فى قطار النوم وكأنه يودع كل مكان بها. كان عاشقا لها، وكانت ملهمته فى أعماله الفنية التى تميزت بثرائها برموزها الشعبية والتراثية المصرية. رحل الأب والصديق والرفيق والسند والملهم ليس لى ولإخوتى فقط ولكن لكل من عرفه من الشباب والأصدقاء والفنانين فقد كان عصمت داوستاشى معطاء لكل من عرفه ومشجعاً لكل محب للفن على الإبداع، وكان يحرص على مساعدة شباب الفنانين فى عرض أعمالهم فى المعارض الجماعية والخاصة التى كان ينظمها لهم، وكان يتابع أعمالهم ويقدم لهم النصيحة دوماً.. كان متواضعاً مع كل الناس، ولا يبخل بفنه ومعرفته على أحد، لهذا أحبه كل من عرفه وحرص على مرافقته ليستمتع معه فى عالمه الفنى الخاص . أما علاقتى به فلم تكن علاقة أب وابن عادية، بل كنت صديقه المقرب وكاتم أسراره، كما هى علاقته بأخواتى البنات سحر وسامية، فلم يمارس ضدنا السلطة الأبوية، بل كان ناصحاً ومرشدا لنا لما هو أصلح فى أمور حياتنا، وكان عاشقاً لأحفاده فيقوم بتجميعهم ومع ألوان الرسم والورق التى يمنحها لهم يعلمهم المبادئ الأساسية ويشجعهم على الرسم وعرض أعمالهم فى معارض الأطفال، وكان يفضل أن يقيموا معه بعض الأيام لمساعدته واكتساب الخبرات فى العمل اليدوي، وكان ينتظر أن يرى أحدهم فناناً مثله ليكمل المسيرة الإبداعية. مسيرة داوستاشى الفنية لم تتوقف حتى آخر أيامه، فبعد معرضه الأخير (عصمت داوستاشى ومقتنياته) الذى أقيم فى فبراير 2025 بجاليرى بيكاسو ايست، والذى سعد به للغاية واعتبره تكريماً لمسيرته الفنية فقد كان معرضاً مميزاً بتنسيقه وبالأعمال التى تضمنها، طلب منى بعد انتهاء أعماله تجهيز الشاسيهات الكبيرة لرسم لوحات جديدة، فقد أعاد له هذا المعرض البهجة للحياة، ومنحه دفقة إبداعية وتوهجاً فى الأفكار، فكان يرسم بكل حماسة رغم صعوبات العمل بسبب مشاكل كبر السن ولكن كان بداخله شاب مبدع لديه الكثير ليقدمه للساحة الفنية كما كان طول حياته. ظل يمارس الفن بشكل يومى ونظراً لظروفه الصحية كان يرسم على الورق والكرتون وهو جالس على مكتبه أمام التلفاز، وكنت قد جهزت له بالفعل مجموعة كبيرة من الشاسيهات التوال للرسم عليه استعدادًا لمعرضه العام القادم نفذ منها لوحة واحدة وقام بتجهيز الأخرى، ورسم بعض الخطوط عليها وتركها لتكملتها بعد العودة من رحلة النوبة التى أصبحت رحلة الوداع. ولولعه بالفن كان يستخدم علب أدويته فى تكوين أشكال للحيوانات والسيارات من خلال تجميعها ولصقها ببعض مكونة الأشكال التى يتخيلها فقد كان متمكناً من استخدام العديد من الخامات والمخلفات التى تتحول بين يديه لأعمال فنية بديعة. ترك داوستاشى إرثاً ضخماً من اللوحات والأعمال الفنية والمقتنيات الخاصة والمشاريع الفنية والكثير من الوثائق والأرشيف، إذ كان كذلك مؤرخاً للحركة التشكيلية المصرية المعاصرة، وترك متحفاً كبيراً بمنزله فى العجمى لأعماله الفنية من الستينيات وحتى آخر أيام حياته، ومتحفاً آخر صغيرًا لمقتنياته من الأعمال لمعظم فنانى مصر من الرواد حتى المعاصرين، وبالطبع سوف أقوم بالحفاظ على متحفه مفتوحًا لمحبيه، كما أخطط لنشر دراساته وكتبه التى لم تُطبع بعد وكان يرغب فى خروجها إلى النور. أنعى نفسى وأسرتى والحركة التشكيلية لخسارة هذا الفنان المبدع المتوهج فى الكثير من المجالات من رسم ونحت وأعمال مركبة وكتابة وتوثيق وتأليف فقد كان فناناً شاملاً يصعب تكراره. وداعاً يا أبى فقد كان رحيلك درامياً ومفاجأة للجميع وإلى عالم آخر غامض تكتشف أسراره. الإسكندرية 16/5/2025