تحقيق ليست أكثر من بيوت ثقافة مستأجرة، تقطن في شقق سكنية بمساحات ضيقة جدًا، تصل إلى تسعة أمتار في بعض الأحيان أو 80 مترًا، لا تصلح لممارسة أي نشاط ثقافي أو فني فعلي، وبلا قدرة حقيقية على التأثير أو التفاعل مع المجتمع المحيط بها. تلك هي أبرز العبارات التي ساقها د. أحمد هنو، وزير الثقافة، في إطار تبريره لقرار إغلاق 120 بيت ثقافة ومكتبة في مختلف محافظات مصر. صدر هذا القرار وتم اعتماده على مدار الشهور الماضية، حتى خرج في صورة أمر إداري من مكتب اللواء خالد اللبان، رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة، يخلص إلى أنه لصالح العمل «يكلف السادة رؤساء الأقاليم الثقافية باتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة نحو إعادة توزيع العاملين المتواجدين بالبيوت والمكتبات الثقافية المؤجرة والتي تقرر إخلاءها بناء على موافقة مجلس إدارة الهيئة العامة لقصور الثقافة بجلسته رقم (324) المنعقدة في 5/3/2025م والمعتمد محضر جلستها من معالي الأستاذ الدكتور/ وزير الثقافة في 13/3/2025م، وذلك في موعد غايته 29/5/2025م، حتى يتسنى العرض على معالي الأستاذ الدكتور/ وزير الثقافة في هذا الشأن». تنتشر هذه البيوت والمكتبات في 23 محافظة، هي: القاهرة (2)، الجيزة (4)، الفيوم (1)، الإسماعيلية (5)، السويس (2)، بورسعيد (2)، الدقهلية (10)، دمياط (4)، جنوبسيناء (1)، شمال سيناء (1)، بني سويف (4)، القليوبية (8)، الشرقية (11)، كفر الشيخ (3)، أسوان (1)، قنا (4)، الإسكندرية (4)، مطروح (1)، البحيرة (9)، الغربية (11)، المنوفية (14)، سوهاج (7)، المنيا (6)، أسيوط (5). يرى وزير الثقافة أن تلك المواقع غير صالحة ولا تملك تأثيرًا حقيقيًا في مجتمعها المحيط، وهي رؤية نظرية قد يؤيدها المنطق، لكن على أرض الواقع؛ هذه الأماكن تشبه أهلها؛ متواضعة ومهمَّشة مثلهم، قد لا تكون صالحة بالنسبة لمتخذي القرار، لكنها كافية للمهتمين بالثقافة في هذه المراكز والقرى الصغيرة، حتى ولو كانت مكتبة مساحتها تسعة أمتار، فهم لا يملكون سواها حتى اللحظة الراهنة. بالطبع لن يمانعوا إن توفرت لهم بدائل أكثر حداثة وجاهزية، وهو أمر يطالب به كثيرون منذ إنشاء الثقافة الجماهيرية – تقريبًا – لكن توفير البدائل يجب أن يسبق الإخلاء، فحسبما عودّتنا الجمهورية الجديدة؛ هل خرج الأهالي من بيوتهم إلى الشارع لتطوير مناطقهم السكنية أم تم توفير السكن البديل أولًا؟ تلك المواقع الصغيرة بمثابة سكن للمهتمين بالثقافة في القرى والمراكز، إن أُغلِقت لن يستطيع روادها البسطاء – في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي نحياها – الانتقال لمركز آخر كي يتفاعلوا ثقافيًا في مكان أفضل، فالكيلومترات القليلة هناك خطوها ليس هينًا كما في المدن الكبرى، خاصة بالنسبة للأطفال؛ المستفيد الأول من بيوت الثقافة والمكتبات الصغيرة. كل ذلك لا ينفي أن هناك مشكلات كثيرة وكبيرة تعاني منها تلك المواقع، قد تعيق ممارستها لدورها الثقافي على الوجه الأمثل، لكن السؤال؛ هل سبب تلك المشكلات هو المكان نفسه الذي يتراوح إيجاره من 200 إلى 600 أو 700 جنيه؟ وهل توفير هذا المبلغ سيخفف من مرتبات مئات الموظفين الذين يشكو د. هنو من تكدسهم أم أنهم سيزيدون من تكدس مواقع أخرى؟ هل سبقت القرار دراسات تراعي الخصوصية المحلية لكل مركز وحالته؟ وهل الأولوية بالنسبة للوزارة – حاليًا – هي الثقافة أم الاقتصاد؟ السؤال الأخير أجاب عليه د. ثروت عكاشة قبل 55 عامًا، في مقاله بالعدد الأول من مجلة «الثقافة الجديدة» حين كتب: «في تقديري أنه عندما يصل الجميع – أفرادًا وهيئات – إلى الفهم الصحيح لدور الثقافة في التنوير والتبصير، ومن ثم في التغيير المعنوي والمادي معًا، فإن هذا كفيل بتصحيح الوضع فيما يخص الموارد المالية المتاحة وكيفية إنفاقها.... لابد أن نبني البشر ونحن نبني المصانع، وأن نتبين أن بناء البشر هو أصعب العمليتين، وأجدرهما بأن توجه له الجهود». أما الإجابة على بقية الأسئلة فتطلبت أن نذهب لنماذج من تلك المواقع كي نتبين حقيقة وضعها، خاصة مع توالي التصريحات والبيانات الصادرة عن الوزير وهيئة قصور الثقافة. موظفون لا مثقفون لنبدأ من أقصى الجنوب، أسوان؛ والتي شملها القرار ممثلة في قصر ثقافة إدفو، الواقع على كورنيش النيل في طابقين بمساحة 80 مترًا، به مكتبة عامة تفتقد التحديث، ومساحته غير كافية للأنشطة ولذلك تُعقَد الندوات في مكتب مدير القصر، ومنذ العام 2008 تم تخصيص قطعة أرض شمال كوبري إدفو لبناء قصر جديد، لكن ذلك لم يحدث. فهل إغلاق البيت الآن يمكن أن يعجِّل بما تأخر 17 عامًا؟ الكاتب الأسواني أحمد أبو خنيجر يرى أن مشكلات قصر ثقافة إدفو لا تختلف عن مشكلات غيره من البيوت والقصور، فهي متشابهة من أقصى شمال البلاد إلى جنوبها، بنفس المنظومة ونفس الأداء الإداري، لأن التخطيط مركزي، والموظفون المحليون يقتصر دورهم على التنفيذ دون رؤية أو مرونة. ويضيف: «الأكثر خطورة أن عددًا كبيرًا من الموظفين داخل هذه المؤسسات لا يمتلكون أي صلة فعلية بالثقافة، بل قد يكون بعضهم ضد الممارسة الثقافية أساسًا، علينا أن نغير المنظومة وأن نراجع طبيعة العاملين في هذه المؤسسات، وآليات تشغيلها، لأن غياب الموظف الفعال أو تعطله يعني أن هناك خللًا إداريًا يستوجب الإصلاح. هناك أنشطة يتم تنفيذها بالفعل، لكن المشكلة أنها تجري في الخفاء تقريبًا؛ بلا إعلان أو دعاية أو تواصل مع الجمهور. الموظفون يتقاضون رواتبهم دون أن يساهموا بأي دور فعال، وقد يستهلكون الموارد المخصصة للنشاط ويحولون دون أي فعل ثقافي جاد، ذلك لأن تعيينهم تم عبر وساطات لا حسب كفاءتهم الثقافية». بدائل تناسب «الجمهورية الجديدة» على خط الصعيد أيضًا؛ نتوقف عند بيت ثقافة نقادة، الذي تضمنه القرار ضمن أربعة بيوت في محافظة قنا، وهو يشغل شقتين في مبنى إسكان حكومي، اعتاد الكاتب أحمد أبو دياب أن يتردد عليه ويستعير منه الكتب منذ كان تلميذًا في المرحلة الإعدادية، ومع تقدمه في الطريق الأدبي ودخوله المجال بشكل احترافي، انضم إلى نادي الأدب وشارك في المحافل الأدبية المحلية، ثم الإقليمية. يقول بمرارة: «للأسف، الثقافة هي آخر ما يُلتفَت إليه في بلدنا، مع قلة الموارد وانشغال الجميع بما هو استهلاكي، فبينما نجد في محافظة قنا جميع «البراندات» من ملابس وأطعمة وأجهزة إلكترونية متوفرة دون الحاجة للخروج من المكان، يغيب الحضور المؤسسي أو التجاري الفاعل في المجال الثقافي، وكأن الصعيد غير معني بالنهضة أو التطور في هذا الجانب. في نقادة؛ لا يوجد مكان لتدريب الشباب الراغبين في المسرح أو الفنون، ومن يرغب يضطر للبحث عن جمعيات أهلية أو أماكن بديلة، قد لا تكون مناسبة، أو لا تدار على نحو يشجع على العمل الثقافي الجاد. ولذلك؛ إن كان الغرض من إغلاق بيت الثقافة هو إعادة البناء والتطوير، فهذا مقبول بشرط وجود بديل واضح ومحدد بمدة، أما أن يُغلق دون خطة أو شفافية، فهذا أمر كارثي. صحيح أن الإمكانات محدودة، لكن هذا المكان رغم ضآلته؛ يضيء بعض الزوايا المظلمة في نفوس الشباب، وقد كان نقطة انطلاقي. لولاه، ربما لم أكن لأبدأ». مثل إدفو؛ يقول أبو دياب إن هناك أرضًا خُصصت منذ سنوات في قنا الجديدة لبناء قصر ثقافة جديد، لكن منذ أكثر من سبع سنوات، لا يسمعون شيئًا بخصوصه ولا شيء يتحقق. يضيف: «من المفترض أن تُستغَل هذه اللحظة لبناء بدائل تناسب «الجمهورية الجديدة» كما يسمونها. الأزمة ليست في الأماكن، وإنما في طريقة إدارتها. لدينا أسماء كبيرة من الأدباء والمبدعين في الصعيد؛ لماذا لا يُستعان بهم في إقامة الفعاليات؟ لماذا – مثلًا – تُسند إدارة معارض الكتب إلى مسؤولين في التربية والتعليم لا علاقة لهم بالمجال الأدبي؟!». ورش ومواهب في سوهاج انتقالًا إلى محافظة سوهاج، والتي تضمن القرار سبعة من بيوتها؛ تباين الأمر ما بين مراكز وصلها إخطارًا رسميًا بالإخلاء قبل يوم 29 مايو، ومراكز أخرى تتابع الأمر من خلال البيانات التي تصدر بين يوم وآخر عن الوزارة أو الهيئة ففي جهينة تجري الأمور في مسارها الطبيعي، لأن بيت الثقافة يضم نادي أدب وبالتالي غير مشمولين في القرار. وفضلًا عن أنشطة النادي؛ يقول مروان الضبع، مدير بيت الثقافة، إنهم يذهبون أحيانًا إلى المدارس، سواء الإعدادية أو الثانوية، لتقديم أنشطة تثقيفية وندوات توعية في موضوعات مختلفة، على يد متخصصين، إلى جانب تنظيم قوافل لتلاميذ الفصل الواحد، حيث لا تتوفر لهم مكتبات. أما المكتبة الموجودة في بيت الثقافة فتشهد إقبالًا من التلاميذ، خصوصًا في الإجازات الصيفية، كما تتضمن نشاطات في الفنون التشكيلية، وورش رسم لأطفال الحضانات والمدارس المجاورة، يليها معرضًا شهريًا لعرض رسومات الأطفال داخل البيت. يخدم البيت نطاق تعداده حوالي 300 ألف نسمة، وكان يعمل على قوته 35 موظفًا، لكن غالبيتهم صاروا بالمعاش، وتقلص العدد إلى 12 يتناوبون بين الفترتين الصباحية والمسائية. ومثل الحالات السابقة؛ هناك أرض تابعة لمجلس المدينة، كانت مجزرًا تم إغلاقه، وقد حصلوا على موافقة المحافظ كي يتم تخصيصه لوزارة الثقافة وتحويله إلى قصر ثقافة جهينة، لكن الأمر لازال في المحافظة ينتظر استكمال الإجراءات. أما بيت ثقافة المراغة فقد تم إخطارهم رسميًا بالإخلاء، لكن الاستثناء من القرار لأنهم يملكون نادي أدب؛ لم يتم الإخطار به. يقع في شقتين مساحتهما 158 مترًا، بإيجار 600 جنيهًا، وفي منطقة تعداد سكانها 650 ألف نسمة، يأتي إليه أهل المركز والقرى المجاورة لأنه الجهة الثقافية الوحيدة في هذا المحيط. وبالإضافة إلى نادي الأدب؛ يضم نادي علوم، ونادي مواهب، ومكتبة أطفال يتردد عليها التلاميذ يوميًا للعب وعزف الموسيقى وحضور المحاضرات. وبين حين وآخر يزور البيت أفرادًا من أبنائه الذين صاروا مهندسين، وصحفيين، وأطباء، ومنشدين. الغريب في الأمر أن المواقع السبعة المطلوب إخلائها في المحافظة؛ سيُشحن أثاثها والكتب الموجودة فيها إلى المخزن الرئيسي للمحافظة بمنطقة الكوثر في سوهاج، وبالطبع سيحدث هذا في كل المحافظات. فهل ستتحمل المخازن ذلك؟ وإلام سيؤول مصير الكتب؟! القيمة المعنوية وشعلة النور من الوجه القبلي إلى البحري؛ نصل إلى الإسكندرية التي تضمنها القرار بأربعة بيوت. وإن كانت الإسكندرية هي الأوفر حظًا بين المحافظات في توفر الكيانات الثقافية، لكن ذلك لا ينفي أن رواد بيوت الثقافة لهم خصوصية، فيقول الشاعر والمترجم عبد الرحيم يوسف أن بيت ثقافة 26 يوليو – مثلًا – حين شارك في إحدى فعالياته؛ وجد غالبية الحاضرين من كبار السن، يعتبرونه بيتًا حقًا يمارسون فيه هواياتهم ويتعلمون، كما تشير الأجواء الطفولية المسيطرة على المكان وما يزينه من رسومات أن الأطفال يترددون عليه في وقت آخر. وفي كل الأحوال؛ يقول يوسف: «أنا ضد أي قرار بإغلاق بيت ثقافة، حتى لو لم يكن يقدم خدماته بشكل مثالي. حين بدأنا ورغب بعضنا في الكتابة، كنا نبحث عن مثل هذه الأماكن ونلجأ إليها. كانت المكتبة أو البيت الثقافي أول مكان نذهب إليه لنتعرف على الكتاب، أو لنسمع عن ورشة أو لقاء أدبي. هناك دائمًا شيء من القيمة المعنوية في هذه البيوت، حتى إن لم تؤدِ وظيفتها كاملة، فالإغلاق مؤشر سلبي على تراجع القيمة». أما محافظة الدقهلية، فكان حظها وفيرًا بعض الشيء وشملها القرار بعشرة مواقع ثقافية متنوعة بين البيوت والمكتبات، ومن بينها بيت ثقافة شربين الذي يقع في شقة مساحتها 130 مترًا بعمارة تابعة لوزارة الأوقاف، يضم ناديًا للأدب ويقدم نشاطًا مسرحيًا، وبعد عيد الأضحى سيبدأ طارق عيد، مدير البيت، في إطلاق النشاط الصيفي للأطفال، الذي ينظمه كل عام بعد انتهاء الامتحانات، وفيه يستقدم مدرسين ويعرض أفلامًا للأطفال، وينظم دروسًا للخط العربي، ومحاضرات، وندوات. وعن فكرة الإغلاق؛ يقول فرج مجاهد عبد الوهاب، الرئيس الأسبق لنادي أدب شربين وعضو نادي الأدب المركزي بالدقهلية: «لا يتعلق الأمر فقط بإغلاق أبواب البيوت، ولكن بإطفاء آخر شعلة نور في أماكن لا تعرف دور سينما، ولا تحفل بفعاليات ثقافية منتظمة، ولا تحتوي على مكتبات خاصة أو مؤسسات تعليمية مرنة. بيوت الثقافة في هذه البيئة هي كل شيء تقريبًا. إنَّ ما تعانيه هذه البيوت من تهميش واضح ليس وليد اللحظة، وإنما نتاج سنوات من الإهمال الحكومي أدّت إلى تهالك بنيتها، وتجفيف مصادرها. لا كتب جديدة تصل، ولا تجهيزات تُحدَّث، ولا أنشطة تُمول كما يجب. الموظفون، مهما كانت نياتهم طيبة، يعملون في ظروف صعبة وبإمكانيات محدودة. واللافت أن الإقبال من الشباب لا يزال قائمًا، بل ويتزايد أحيانًا، لأنهم لا يجدون بديلًا حقيقيًا. في قرية نائية؛ ما المنفذ الوحيد للقراءة؟ هل هي شبكات الإنترنت البطيئة والمكلفة؟ أم المقاهي الصاخبة؟ أم قنوات التواصل الاجتماعي التي تستهلك الوقت دون أن تمنح معرفة حقيقية؟». ويضيف عبد الوهاب: «الإغلاق المتوقع أو الجاري بصمت؛ هو إعلان رسمي بأن الثقافة لم تعد من أولويات السياسات العامة، فذلك خطأ استراتيجي فادح، لأن الثقافة ليست ترفًا، بل شرطًا من شروط بقاء المجتمعات متماسكة. حين تغلق بيوت الثقافة، فأنت تدفع شابًا إلى أن يبحث عن بدائل أقل جدوى، أو أكثر خطورة أحيانًا. تتركه لفراغ سيسكنه كل شيء إلا الوعي». الثقافة الحقيقية لا تحتاج ترفًا هذه فقط نماذج، لكنها لا تختلف كثيرًا عن أمثالها في بقية المحافظات والمراكز، التي قررت الهيئة العامة لقصور الثقافة استحداثها ببدائل مثل المسرح المتنقل والمكتبات المتنقلة، لأن الأهداف الثقافية – بحسب ما جاء في البيان الصادر عن الهيئة الأسبوع الماضي – لا يمكن تحقيقها من خلال مجموعة من المكتبات المؤجرة التي لا تتجاوز مساحة بعضها حجرة صغيرة أو قاعة محدودة، وأحيانًا بالشراكة مع جهات أخرى لا تليق بموقع يقدم خدمة ثقافية تواكب طموحات المواطن المصري، الذي أصبحت التكنولوجيا جزءا لا يتجزأ من مفردات حياته. وفي هذا السياق، كان من الضروري إعادة النظر في أوضاع المكتبات المؤجرة الضيقة، التي لا يتردد عليها جمهور، ولا تقدم خدمات فعلية. توفير المستحدثات المتنقلة، رغم تكلفته المرتفعة، يبدو جهدًا جيدًا من وزارة الثقافة، لكنه لا يمكن أن يكن بديلًا للمقرات الثابتة، ولذلك نجد الكاتب هيثم السيد، صاحب «عربية الحواديت» والمعتاد على التنقل بين محافظات مصر؛ يستنكر الإغلاق ومبرراته، ويعرض مبادرة بأن يتسلم هذه البيوت، ولو كانت مساحة المكان مترين في مترين، متعهدًا بتحويلها إلى نقاط ضوء تنير كل أرجاء مصر، لأن عبارة «إغلاق بيت ثقافة» ذات وقع قاس جدًا، وأثرها مميت. مضيفًا: «نحن في حاجة إلى أي مصطبة أو فناء أو جرن أو سطح أو كوخ، كي نفتح أبوابًا على الحياة، ونفتح نوافذ على الوجود، كي نغلق جحور الظلام ونخنق خفافيش القبح. نحن في حاجة إلى مساحة فارغة تقف عليها قدم إنسان، ليستمع إلى من يلقي شعرًا، أو من يعزف موسيقى، أو من يغني، أو يقف ليقرأ كتابًا. نحن في حاجة إلى شبر في شبر، يجلس عليه أحدهم ليحكي لطفل حكاية، أو يرسم معه لوحة، أو يعلمه شيئًا. نحن بحاجة إلى أي شيء». يؤمن السيد – من واقع تجربته الميدانية لأكثر من عشرين عامًا – بأن الثقافة لا تحتاج إلى مظاهر الترف والبهرجة، فلا تكييفات، ولا نجف مستورد، ولا كراسي فاخرة قادرة على خلق فعل ثقافي حي، وإنما تنبع الثقافة الحقيقية من الناس وبينهم، وتُمارَس على الأرصفة، وتحت الأشجار، وفي الحارات، والحقول، والأجران. وضرب مثالًا حيًا بملتقى «دوامة للفنون»، الذي استقطب أكثر من 12 ألف مشارك ومهتم في يوم واحد، في قرية نائية تكاد تكون على «حافة الوجود». هذه التجربة تثبت – في رأيه – أن الثقافة الحقيقية هي خط الدفاع الأول ضد كل القبح الذي بات يحيط بنا من كل جانب، فإذا انطفأت قناديلها؛ لن يظهر في نهاية النفق أي «خربوش ضوء». من أجل العدالة الثقافية تناثرت أقوال – لا أدري مدى صحتها – أن د. أحمد هنو قال إن الوزارة تمتلك 619 وحدة ثقافية، وأن 500 منها كافية لتغطية الجمهورية. فهل هذا العدد من القصور والبيوت الثقافية يكفي حقًا ليغطي أكثر من مائة مليون نسمة في بلد بها 4655 قرية؟! الأديبة والنائبة ضحى عاصي، صاحبة شعار «الثقافة حق للجميع» في حملتها الانتخابية، تقدمت بطلب إحاطة في مجلس النواب، وعبّرت عن استيائها الشديد تجاه هذا القرار، مؤكدة أن منطق الوزارة يعكس أزمة أعمق في فهم الثقافة بوصفها خدمة عامة لا يجوز إخضاعها لمنطق السوق فقط. فبيوت الثقافة، حتى في أبسط صورها، تلعب دورًا أساسيًا في توفير الحد الأدنى من الخدمات الثقافية للمواطنين، خصوصًا في القرى والنجوع والمناطق النائية. ووجودها الرمزي والمكاني يشكّل دعامة رئيسية للتماسك المجتمعي، ونافذة لنشر الوعي، خاصة بين الأطفال والشباب. وتضيف: «التقديرات تشير إلى أن القرار يمس 130 بيت ثقافة يعمل بها نحو 1900 موظف، وتخدم ملايين من المصريين. إذا كانت هناك مشكلات في الكفاءة أو النشاط، فالحل ليس الإغلاق، بل تطوير نموذج مرن للتشغيل. هذا التحول من النظر إلى بيت الثقافة كمرفق خدمي إلى تقييمه بمنطق «الجدوى الاقتصادية»، أمر مقلق جدًا. نحن لا نتحدث عن عقارات أو مشاريع ربحية، بل عن أدوات بناء وعي ومقاومة للتهميش. قد يكون هناك قصور في الأداء، لكنه لا يبرر الغلق، ثم إن التحسين الحقيقي لا يكون بإغلاق الأبواب». وفيما يتعلق باستخدام بدائل متنقلة؛ تقول: «الوزارة تشير إلى أن هناك توجهًا لاستخدام «عربات متنقلة» ولكن استبدال أماكن بيوت الثقافة الثابتة بعربات ثقافية متنقلة قد يبدو حلًا مبتكرًا، لكنه في الواقع غير عملي وغير عادل، ويحمل عددًا كبيرًا من الإشكاليات؛ أولها غياب الاستمرارية والثبات، العربات لا تتيح تكوين علاقة مستمرة بين المجتمع المحلي والنشاط الثقافي، مما يمنع تراكم الأثر المعرفي أو التربوي أو الفني. ثانيا ضعف البنية التحتية الثقافية، فالبيت الثابت يوفر مكتبة، قاعات، ورش، بينما العربة تقدم نشاطًا محدودًا لفترة قصيرة. والأهم هو فقدان الحاضنة المجتمعية، البيت يتحول مع الوقت إلى مركز يجمع الأهالي، بينما العربة تظل «زائرة» لا «ساكنة». كما يؤدى أيضا إلى ضعف الاستثمار طويل الأمد، فالبيوت يمكن تطويرها وترميمها، أما العربات فهي عرضة للتلف وذات كلفة تشغيلية مرتفعة. هذا بالإضافة إلى تهميش العاملين بالثقافة، فوجود بيت ثابت يعني وجود وظائف، فرص عمل، تكوين كوادر محلية... أما العربة فتستبدل كل ذلك بفريق متنقل محدود لا ينتمي إلى المكان ولا يؤثر فيه مجتمعيًا. كما أن العربات المتنقلة تأتي يومًا أو يومين وترحل، فلا تنشئ عادة ثقافية، بعكس البيت الذي يُزار طوال الأسبوع. ومهم جدًا في هذه النقطة توضيح أن الخدمة الثقافية غير متاحة للمواطن عندما يريد وعندما يستطيع، وإنما تقدم له موسميًا أو شهريًا. كل ذلك يؤدي بالضرورة إلى انعدام العدالة الثقافية؛ فإذا كانت هناك عربة واحدة تمر على 10 قرى، فكل قرية تحصل على «حصتها» مرة في الشهر فقط، مقارنة بالمدن التي تملك مكتبات ومسارح ومعارض دائمة، هذا ناهيك عن ضعف توثيق الإنتاج الثقافي المحلي، فالبيوت الثابتة تنتمي إلى المكان وتستطيع توثيق التراث المحلي وأعمال أهالي القرى، أما العربات فتمر مرور الكرام ولا تحتفظ بأي شيء. باختصار العربات قد تكون أداة مساعدة لتوسيع التغطية، لكنها لا يجب أن تكون بديلًا عن المؤسسات الثابتة». ولم تغفل ضحى عاصي أثر القرار على الموظفين العاملين في البيوت، قائلة: «نقل الموظفين دون خطة واضحة لتطوير قدراتهم أو إشراكهم في أنشطة بديلة يعمّق الشعور بعدم الاستقرار. هناك أكثر من 1900 موظف معنيون بهذا القرار، وبينهم إداريون ومشرفون وفنيون. إذا لم تُراعَ ظروفهم الاجتماعية أو مؤهلاتهم أو حتى موقعهم الجغرافي، فسنواجه إشكاليات تتعلق بالعدالة الوظيفية، وقد نخسر كوادر ثقافية محلية مهمة».