تحت سطوة الأخبار السلبية التى تطل علينا، يصبح الهروب أحيانًا هو الحل الوحيد للحفاظ على ما تبقى فى الروح من طاقة، ليس فرار الضعفاء، ولكن من الضجيج إلى الوعى. الهروب النبيل لا يكون إلا باستدعاء ما يربطنا بتاريخنا وحضارتنا وثقافتنا، وغيرها من الروافد التى تشكل «سر مصر»، والقوة الناعمة، المكونة من مزيج الثقافات والحضارات على مر التاريخ، فأثمرت فنونًا وآدابًا ورقيًا يشع نوره على دول وشعوب المنطقة، وسط ضجيج التكفير وصليل السيوف. مصر التى لا يريدون أحد أن يدافع عنها، وإذا كان الهجوم عليها شجاعة فبئسها، فهى الشعب والأرض والدولة.. الشعب الذى تنبع هويته من التلاحم السلمى بين الحضارات والأديان، وفشلت الجماعة الإرهابية فى جره لأتون الصراع الطائفى، بين المسلمين والمسلمين وبين المسلمين والأقباط، ورفض المصريون أن يكونوا وقودًا لحروب دينية، مثل التى تحرق دول الجحيم العربى. ولم ينجحوا فى وأد استنارة طه حسين والعقاد، ولا أن يستبدلوا وطنية الشيخ المراغى وانفتاح محمد عبده، بأئمة التكفير مثل القرضاوى ووجدى غنيم.. ولم تستطع «أم أيمن» أن تمحو ذكرى «هدى شعراوى». فشلوا فى إسكات صرخة أم كلثوم وهى تشدو «أنا إن قدر الإله مماتى لا ترى الشرق يرفع الرأس بعدى»، وعلا صوت عبد الوهاب يغازل معشوقته مصر «ليه بس ناح البلبل ليه، فكرنى بالوطن الغالى»، ودُفن الصخب والضجيج فى مقابر الإبداع. السرّ الذى حيّر المؤرخين وأعجز الغزاة، وأبقى هذا الوطن حيًا رغم آلاف السنين، لا يُدون فى الكتب فقط، بل فى بساطة الحياة رغم تعقيدها، وفى إيمان المصريين بأن الغد دائمًا أفضل. «سر مصر» هو حالة وطنية عبر العصور، وتتجلى حين تشتد الأزمات وتحمى الوطن من السقوط، والتصدى للمؤامرات التى تحاك ضده فى الداخل والخارج، والقدرة على التماسك وصناعة الأمل. اللجوء إلى الذات المصرية العميقة، هو السرّ الذى يجعلنا نصمد، أول دولة فى التاريخ آمنت بالله، واحتضنت رسالات السماء، وصاغت من الحب والتسامح والتوحيد هوية لا تزال راسخة رغم العواصف. لم تكن مصر أبدًا دولة قبائل أو أعراق متناحرة، بل بوتقة تنصهر فيها كل المذاهب، وتصنع منها شعبًا واحدًا، يؤمن بأن الدين لله والوطن للجميع، لا يرفع سلاحًا فى وجه أخيه، ولا يغلق قلبه فى وجه المختلف. مصر هى الأرض، التى سعت الجماعة الإرهابية إلى التفريط فيها، وتصدى لها جيش مصر العظيم، وبالمناسبة فهذا الجيش الذى يروى ثراها بالدماء، لا يعرف التفريط فى شبر واحد من أرضها، ولم يكن قادته فى يوم من الأيام، إلا حراسًا أمناء على استقلال الوطن ووحدة وسلامة أراضيه، وتحطمت على صخرته مؤامرات التقسيم والتفريط. كل من حاول التضليل بعباءة الدين فشل مسعاه، وكل من حاول اختطاف العقول، اصطدم باستيقاظ الوعى، ونحتاج أن نوقظ داخلنا ملامح مصر، ونُلقن أبناءنا أن حب الوطن قصة مختلفة تمامًا عن العالم الافتراضى وسوشيال ميديا.