كل كلمات الرثاء التى نحاول بها أن نشرح لهذا الطفل أى شيء عن الفقد الذى هو سنة الحياة نوعاً من العبث الذى لا طائل من ورائه أصعب وأقسى رحلة على قلبى وعلى روحى هى رحلة العودة من الأقصر للقاهرة بعد توديع عزيز ودفن جثمانه تحت التراب. أظل مستيقظاً طوال رحلة السفر سواء بالقطار أو بالأتوبيس أو بأى وسيلة مواصلات، متأملاً كل ما تقع عليه عيناى خارج النافذة سواء كانت أراضى زراعية أو صحراء مترامية الأطراف أو بيوتاً لا أتبين تفاصيلها من خلال الدموع التى تملأ الوجدان قبل العينين. تمر على ذاكرتى طوال مدة الرحلة كل تفاصيل اللقاءات التى جمعتنى بمن شاركت فى مواراة جثمانه الثرى منذ لحظات قليلة. وكلما تذكرت موقفاً جمعنا زادت رغبتى فى البكاء كطفل فقد لتوه شيئاً عزيزاً عليه دون أن يدرى أو يفهم لماذا فقده. لحظتها تبدو كل كلمات الرثاء التى نحاول بها أن نشرح لهذا الطفل أى شيء عن الفقد الذى هو سنة الحياة نوعاً من العبث الذى لا طائل من ورائه. طوال رحلة عودتى بالأمس من الأقصر بل ومنذ أن فارقتنى أختى عبير الأسبوع الماضى لا تمر لحظة دون أن أتذكر تفاصيل رحلتنا معاً منذ الطفولة، أسرح فى الأماكن التى جمعتنا معاً، هنا كنا نلعب وهنا نأكل وهنا كنا نتشاجر شجار الطفولة البريء. كانت هى المبادرة دائماً بالصلح فأنا أخوها الأكبر منها والذى لا تطيق زعله أو غضبه وخصامه. أسوق أنا الدلال متلذذاً برؤيتها وهى تحاول أن تصالحنى دون جدوى منى فتلجأ لنقطة ضعفى، تنزوى جانباً لتدندن بأغنية فايزة أحمد: يا غالى عليا يا حبيبى ياخويا.. يا أجمل هدية من أمى وأبويا،، فأحتضنها ضاحكاً: خلاص يا عبير سماح يلا نلعب تانى. أفيق من سرحانى فى عبير لتحاصرنى طيلة طريق العودة تلك الأسئلة الطفولية التى نحاصر بها آباءنا ونحن صغار عندما يحدثونا عن الموت والفراق: لماذا يا أبى يا حبيبى لا يموت كل الناس مرة واحدة حتى لا يحزن أحدٌ على أحدٍ ولا يبكى أحدٌ على أحدٍ ولا ينفطر قلب أحدٍ على أحد، وكيف يمكن لطفل صغير أن يفارقه أمه أو أبوه بغير رجعة، لم يكن وفاة الأشقاء يرد على أذهاننا فى تلك السن وكان الكلام فقط عن موت الوالدين باعتبارهم الأكبر سناً،، يضحك الأب وهو يجيب بإجابات غامضة وغير مفهومة لذلك الطفل عن سنة الحياة والموت وعدم علاقة الموت بالسن، فيعود الطفل محاولاً أن يجد له ولمن يحب مخرجاً فيسأل: إذا كان من المستحيل أن يموت الناس كلهم مرة واحدة فلماذا لا يموت الذين يحبون بعضهم البعض فى نفس الوقت؟! وهنا يوقن الأب أن الحوار مع الطفل لن يجدى نفعاً فيجيب الإجابة الأسهل والأشهر منهياً بها الحوار الوجودى: ستفهم عندما تكبر!. لا تفارق مخيلتى صورة المقابر وقد تراص فيها الأحباب واحداً بجوار الآخر. قطعة منى قد سكنت هذا التراب منتظرة قطعة أُخرى تلحق بها، ثم يحين دورى أنا لأسكن بجوارهم. هنا يرقد القلب الذى لم يتوقف نبضه يوماً عن حبى فهو قلب أمى أم هشام. بجوارها يرقد الرجل الحنون الذى نحى عاطفته جانباً عندما وجدها قد تتعارض مع رغبة وحيده فى الغربة والهجرة شمالاً للقاهرة ليعمل صحفياً، نعم هنا أبى الحبيب الحاج أحمد أحمد مبارك وعلى بعد أمتار قليلة منه ترقد نبع الحنان عمتى فاطمة أحمد مبارك التى أحبتنى كما لم يحبنى أحد مثلها والتى لا ينافسها فى ذلك الحب سوى عمتى زينب أحمد مبارك التى ترقد على الضفة الأخرى من القبر، تلك العمة التى بلغ حبها لابن أخيها حداً يفوق الوصف حتى أنها وصفته يوماً ما بأنه أجمل رجل فى العالم كله شكلاً وموضوعاً!. أدور دورة كاملة حول قبور الغاليين من أعمام وعمات وأخوال وخالات وأولادهم وبناتهم وجميع أفراد العائلة الذين سبقونا إلى هناك، لا أريد مفارقتهم محاولاً أن أتخيل أين سيقع مكان قبرى بينهم؟، ترى سيكون فى هذه الزاوية أم تلك؟، قريب من هذه الشجرة أم بعيد أم سيكون كما أحلم وأتمنى وأدعو الله أن يكون هناك بجوار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم فى البقيع؟. المهم أنه وفى جميع الأحوال سيأتى ذلك اليوم الذى أسكن فيه تحت التراب ليعود المشيعون من غيرى بعد أن وضعوا بعضاً منهم تحت الثرى أياً كان مكانه فما تدرى نفس ماذا تكسب غداً وما تدرى نفس بأى أرض تموت. فاللهم ارحم كل أحبابنا الذين سبقونا إليك وأسكنهم الفردوس الأعلى من الجنة وأحسن ختامنا فى الأمور كلها وألحقنا بهم وأنت راضٍ عنا آمين.