كيف كان يفكرعادل إمام في مشواره.. هل كان يخطط لمستقبل مختلف ومكانة خاصة وتاريخ؟.. أم أن القدر إلتقط الموهوب الكبير وساهم بشكل ما في رعايته ودعمه وألقى به في طريق نجاح بلا حدود؟.. اعترف إنني أشاهد كل يوم فيلما لعادل إمام لأنه يمثل لي حالة بهجة خاصة، ربما تشكل استراحة اتنفس معها أعباء الحياة، ويفض بعوالم شخصياته حالة الاشتباك بيني وبينها.. اتجول بين بداياته ومرحلة إثبات الذات ثم مرحلة الرواج الجماهيري ثم النضج الكبير.. توقفت عند محطات عدة، ووجدت النقطتين "الموهبة" و"القدر"، وقد تحققا مع سبق الإصرار، فالموهبة الكبيرة سارت في خط مواز مع ترسمه لها الأيام من تألق وتربع على القمة. طوال مسيرته الفنية الحافلة، جمع عادل إمام بين الكوميديا والدراما وفق مفهومه الخاص، وذلك عبرعدد من التجارب التي سلطت الضوء على معاناة المهمشين والعاديين من أوضاع اجتماعية.. حلم معهم ولهم.. جسّد شخصياتٍ تدافع عن الحق في الحلم وتتعاطف مع المستضعفين وتندد بالتعصب والتطرف، أيضا اقتحم عوالم الكبار ليكشف عن فساد نفوس كامن متفشي مما جعله رمزًا لحالة تسامح مع النفس، بوضع يده على الجراح، ويطرح التساؤلات، ثم يطيب بخاطر مجتمع كاد أن ينال منه الألم أو يسقط في فخ الغفوة. أن الفيلم الجيد يثير التساؤلات ويدفع المشاهد للتفكير بعد انتهائه، ويترك تأثيراً مستمراً في الذاكرة، سواء كان يحمل رسالة اجتماعية أو نفسية عميقة، أو حتى لو كان بسيطاً، لكنه يترك بصمة قوية. اتذكر عادل إمام في شهادته على جزء من تلك الرحلة قال "في العديد من أفلامي أكافح التمييز وأرفع مستوى الوعي بالفقر والمشاكل الاجتماعية وقضايا تحتاج إلى معالجة، لكن غالبًا ما يصعب مناقشتها، وتساءلتُ كيف يُمكنني الإسهام في النقاش، عندما تُتاح لي فرصة تقديم مساهمة إيجابية وإنسانية" . عادل إمام يتمتع بقدرة فريدة على إيصال هذه القضايا المعقدة بأداء بسيط وسلس، فهو ليس ممثلا نمطيا، وهو غير منفصل عن الشارع، واستطاع أن يجسد شخصياته بإتقان وبراعة لا مثيل لها، فنجح في التعبير عنه "سواء الطبقات الدنيا أو العليا" على مدار أجيال متعددة منذ ستينيات القرن الماضي، وحتى وقتنا الحالي، وبالطبع كان دائما يجيد اختيار كتاب السيناريو المتميزين في تقديم مجموعة أفلامه القوية التي أبدع فيها تمثيلا وأداء وفكرا. منذ بداياته، قدم أدوارًا صدمت الكثيرين في المجتمع المصري، إذ تناول قضايا اجتماعية وسياسية حساسة فى مرحلة مبكرة بروح دعابة فريدة، مثل "المحفظة معايا" عام 1978، التي اصطدام فيها بعالم كبار "الحرامية"، وأيضا ثلاثية "رجب فوق صفيح ساخن، شعبان تحت الصفر، ورمضان فوق البركان"، وكانت هناك إشارات فنية إلى ثغرات اجتماعية واقتصادية في مجتمع عصر الانفتاح، وصدم عادل إمام الجميع وهو يمهد لمرحلة جديدة، وكان الملفت الإقبال الجماهيري الكبير على هذه الثلاثية التي توجته نجما أحاديا للشباك "إحنا بتوع الأتوبيس" للمخرج حسين كمال، المفعم بالدراما السياسية، والأجواء القاسية، حيث جسد شخصية صعبة، وهو "جابر" التي أنغمس في كل تفاصيلها النفسية بإقتدار في فيلم يؤرّخ لمرحلة ما قبل نكسة 1967، والإجراءات التعسفية تجاه الطلاب والفنانين والمثقفين ونشطاء الرأي والسياسيين وغيرهم. و"الغول" إنتاج عام 1983، التي قدم فيها شخصية الصحفي "عادل عيسى"، الذي قدم خلالها أكثر من مشهد مهم في مشواره كممثل، خاصة مشهد الخلاص من غول الجشع والاستغلال والافتراء ممثلة في رجل الأعمال "الكاشف"، وذلك عندما أخفى سكينه داخل الصحيفة التي قام بغرسها في قلب رجل الأعمال الفاسد، فارتاح ضميره، وتنفسنا معه لحظة الخلاص. أيضا التحولات الاجتماعية في ثلاثية "رجب فوق صفيح ساخن، شعبان تحت الصفر، ورمضان فوق البركان"، وهي الأعمال التي حققت جماهيرية كبيرة وشهرة واسعة ونمط مغاير على الشاشة. وتناوله للإرهاب والتطرف الديني والفساد السياسي والرأسمالية وفساد رجال الأعمال في أفلام مثل "الإرهاب والكباب" عام 1992، و"الإرهابي" عام 1994، و"طيور الظلام" الذي شكل علامة فارقة في قراءة مستقبل وألاعيب خفافيش الظلام، بجرأة فنية وفكرية في الطرح. أيضا "حسن ومرقص" إنتاج عام 2008، الذي شارك في بطولته عمر الشريف، وتناول الديناميكيات الإسلامية المسيحية في مصر ب"عمارة يعقوبيان". وفي "المنسي" وضعنا عادل إمام بشخصية عامل التحويلة في يوم واحد يحكمه صراع بين شاب هامشي ورجل أعمال جبار، وصراع بين الخير والشر، لكنه يقدّم صورة عن عالم المتنفذين الكبار، من خلال رجل أعمال يريد تقديم سكرتيرته الشابة كقربان لتاجر يريد إبرام صفقة معه خلال حفل كبير في قصره. و"الأفوكاتو" إنتاج عام 1983، حيث نموذج المحامي "حسن سبانخ" ومتعة الفانتازيا والكوميديا السوداء مع المخرج رأفت الميهي، وكشف فيه بعض الأنماط الفاسدة في المجتمع، بما فيها السجين والسجان، متجاوزا المحاذير التي ظلت بعيدة عن النقد والتعرض لها من خلال السينما. و"حتى لا يطير الدخان" إنتاج عام 1984، حيث كشف أمراضا أخرى تفشت في المجتمع، وصراع طبقات تلتهم الأحلام، من خلال شخصية "فهمي" الشاب ذو الظروف الصعبة والطموح الأكبر من إمكانياته، ويعتز بنفسه ويحمل بداخله الكثير من الحقد لمجتمع طبقي لا يعفو. هناك أيضا أفلام "بوبوس" إنتاج 2009، "السفارة في العمارة" إنتاج 2005، "مرجان أحمد مرجان" إنتاج 2008، "الواد محروس بتاع الوزير"، وبينهم شخصيات تخفى بطلها في كثير منها وراء شخصية تشبه الصعاليك الفقراء والمتعلمين، وأثبت فيها مهارات استثنائية في العديد من الأنواع.. الميلودراما، والأكشن، والإثارة، والرومانسية، والرعب.. وحتى الخيال، مما ترك تأثيرًا لا ينسى في كل منها، بينها "الهلفوت" إنتاج عام 1985 حيث شخصية "عرفة مشاوير" الشاب من الطبقة المسحوقة، الذي يعمل حمالًا في منطقة فقيرة، والرجل ثقيل اللسان ضعيف البنية، الأمر الذي جعله دومًا في منزلة أدنى حتى بين أفراد طبقته البائسة، وكان كل أمله في الحياة أن يتزوج من "وردة"، لكنه سيصنع تغييرًا كبيرًا في حياته كي لا يبقى هلفوتًا، وذلك حين ينتحل شخصية الفتوة "عسران"، ويكشف عن ضعف ذلك الفتوة الخارج عن القانون، الذي عاش متحصناً ب"الرعب" الذي يصدّره لأهل القرية الضعفاء، وهو يعلم أن ضعفهم وخوفهم من المواجهة سيكون قضباناَ لسجن أدخلوا أنفسهم فيه، في رسالة مهمة للمتلقي. وفي "المتسول" إنتاج عام 1983، يقدم إمام شخصية "سليمان البرطوشي"، الوافد من قريته إلى القاهرة بعد وفاة والدته، ويقيم في منزل خاله، ثم يُطرد ليجد نفسه مع مجموعة من المتسولين، ويتم تجنيده ليكون متسولًا في إحدى الأحياء الراقية، ويجد نفسه متورطًا مع أحد رجال الأعمال الفاسدين. أيضا "المشبوه" حيث اللص "ماهر" الذي قدمه المخرج الرائع سمير سيف، وكان متألقا وهو يواجه مصيره هو وزوجته "بطة" بين ضابط المباحث "طارق" ورفقاء سنوات النشل، وفتح هذا العمل نوعية أدوار تراجيدية أخرى لعادل إمام بعيدة عن الكوميديا، هناك أيضا "عنتر شايل سيفه، رسالة إلى الوالي، زهايمر"، وفي مرحلة أخرى متفرقة بين أجواء الرحلة قدم "النوم في العسل" حيث جسد دور "العميد مجدي" الذي يواجه تستر الحكومة على مرض بسيط لينتشر ويتوسع ويصبح فيروس يصيب المجتمع في مقتل.. تلك النوعية من الأدوار بلا شك هي النموذج السينمائي الذي تعشق مشاهدته رغم أنه يؤلمك، ويزيد من عمق جراحك، لكنه في الوقت نفسه يطيب بخاطر مشاعرك ويشبع رغبتك ولهفتك في رؤية مختلفة للحياة.. هناك أيضا ثلاثية "بخيت وعديلة"، "المولد"، "كراكون في الشارع"، "سلام يا صاحبي"، "الحريف"، "حب في الزنزانة"، والأخير تطرق عبر شخصيته لسؤال اجتماعي مهم، كيف عندما تكون فقيرًا معدمًا فأنت لا تملك الخيارات العديدة للهروب من قبضة الفقر والموت والمرض، ما قد يدفعك لدخول السجن طوعًا والاعتراف بجريمة لم ترتكبها في مقابل حفنة من الأموال يدفعها لك أحد الرجال الأغنياء حتى يزيح التهمة عنه، طرح عادل إمام عبر الفيلم سلطة رأس المال وما تفعله بالبشر ودوافع الانتقام، عشنا معه قصة حب تولد داخل الأسوار لجريمة لم يرتكبها السجين، وتنتهي بدوافع الانتقام. ويبقى كاتب السيناريو الكبير وحيد حامد أحد المؤثرين في مرحلة ثرية لعادل إمام، الذي ألتقط معه خيط الاشتباك مع قضايا اجتماعية راسخة في المجتمع المصري. حيث شارك بشخصيات كوميدية جسد فيها دور المصري بمختلف مراحله ومستوياته، الشاب المتعلم أو الريفي البسيط في أحلامه، وتصدى لقسوة الحياة، وقد لعب أدوار أكثر جدية كشفت عن وعي كبير وإبداع واجتهاد.. وقدر. انطلقت تلك المسيرة الفنية المشتركة بين الفنان والكاتب ب"أحلام الفتى الطائر" عام 1978، وكان المسلسل مؤشرا لاقتحام الممثل قضايا أكثرعمقا، وهو ما حدث بالمستقبل بإنتاج أفلام تُبرز تعقيدات المجتمع، والتي لمسها إمام مع ظهوره الأول في المسرحية الكلاسيكية "أنا وهو وهي" عام 1964، بطولة فؤاد المهندس. كان إمام صادقا مع نفسه وفنه.. والصدق هو ما يُحدد طول المسيرة الفنية وتقديرها. اقرأ أيضا: فتحي عبد الوهاب يكشف ذكرياته مع عادل إمام