الاجتهاد باختصار هو بذل الوسع لاستنباط الأحكام الشرعية للمسائل الفرعية التى تظهر فى حياة الناس، أو إعادة النظر فى بعض المسائل الفقهية بما يناسب الزمان والمكان والأحوال، وهو يختلف عن الفتوى التى تدور حول مجرد الإخبار عن حكم الشرع فى مسألة ما، وإنما قُيِّد الاجتهاد بالمسائل الفرعية لأن المسائل الأصلية كالفرائض والمحرمات محسومة بالنصوص القطعية من الكتاب والسنة، فهى ليست محلًا للاجتهاد.. يؤكد د.عباس شومان أمين هيئة كبار العلماء أن لا اجتهاد مع النص، ولذا لم نرْ فقيهًا يقول إن الصلوات أقل أو أكثر من خمس صلوات فى اليوم والليلة، أو أن زكاة المال ليست فريضة، أو أنها تجب على الفقراء، أو أن الصوم المفروض يكون فى شهر غير رمضان.. إلخ، ومع ذلك وجدنا الفقهاء يختلفون فى صلاة الوتر التى بعد العشاء، حيث رأى الحنفية أنها واجبة، والواجب عندهم أقل من الفرض وأعلى من السنة، بينما يرى الجمهور أنها سُنة، واختلفوا كذلك فى كيفيتها هل هى ثلاث ركعات متصلة أو ركعتان وركعة، واختلف الفقهاء أيضًا فى زكاة الفطر بين الفرضية كزكاة المال والوجوب الذى يقول به الحنفية والسُنية، كما اختلفوا فى نواقض الوضوء وهيئات الصلاة وتفصيلات الحج والنصاب الذى تُقطع فيه يد السارق، وغير ذلك كثير من المسائل الفرعية. ويوضح أنه على الرغم من هذا الاختلاف الواسع فى المسائل الفرعية، فإن كل ما ورد عن الفقهاء المجتهدين -وإن تعدد فى المسألة الواحدة- محكوم بصحته وصالح للاقتداء به من قبل المكلفين، شريطة ألا يتنقل المكلف بين هذه الأقوال؛ فمرة يعتبر الكلب نجسًا كما يرى الحنابلة، ومرة يراه طاهرًا كما ذهب المالكية، وأخرى يرى لعابه نجسًا وجلده طاهرًا كما ذهب الحنفية والشافعية، والسبب فى عدم جواز تنقل المكلف بين أقوال الفقهاء ألا يكون كالمتلاعب أو المتشكك فى الأحكام الشرعية، بل عليه أن يلزم مذهبًا من هذه المذاهب، وامتثاله مقبول ولا حرج عليه، فالقاعدة المتفق عليها أن كل مجتهد مصيب، واجتهاد العلماء ضرورة فى شريعتنا، حيث إن الفروع غير متناهية، فالمخترعات والحاجات البشرية لا تتوقف، ومن ثم فإن الاجتهاد فيها وبيان حكمها أصبح ضرورة حياتية، لذا وجب أن يقوم نفر من الأمة بالاجتهاد وفق ضوابط محددة وبعد امتلاك أدوات ومؤهلات معينة لبيان أحكام هذه الفروع وغيرها مما يستجد فى حياة الناس. اقرأ أيضًا | علي جمعة: الإسلام ليس دين حرب وكل غزوات النبي مات فيها 1000 من الطرفين ويضيف أن الأصوليين والفقهاء حددوا شروطًا ومؤهلات معينة يجب على المجتهد امتلاكها والتسلح بها قبل أن يجتهد فيما يقتضى الاجتهاد، ومن أهمها، إتقان اللغة العربية لغة القرآن والسنة مصدرى التشريع الأساسيين، ومعرفة آيات الأحكام فى كتاب الله الناسخ منها والمنسوخ، والمجمل والمفصل، والعام والخاص، وأسباب النزول.. كما يلزمه معرفة أحاديث الأحكام كمعرفته لآيات الأحكام، وعليه كذلك أن يعرف مصادر التشريع الأخرى كالإجماع والقياس، وعلى الرغم من قلة شروط الاجتهاد عددًا، فإن تفصيل القول فيها وتحصيلها يعجز عنه كثير من الناس، ويكفى أن نعلم أن أعلامًا من العلماء لم يمتلكوا شروط الاجتهاد المطلق، وهى الشروط التى تحققت لأكابر العلماء كأبى حنيفة ومالك والشافعى وأحمد - رضوان الله عليهم أجمعين، ولا يُشترط فى المجتهد لاستنباط أحكام الفروع المستجدة امتلاك شروط الاجتهاد المطلق الذى هو أعلى مراتب الاجتهاد، فهناك المجتهد فى المذهب ويمثله غالبية تلاميذ أصحاب المذاهب، والمجتهد فى الأبواب الفقهية حيث يملك القدرة على الاجتهاد فى بعض الأبواب دون البعض الآخر، والمجتهد فى بعض مسائل الباب دون بعضها الآخر، وآخر مَن يحق له الاقتراب من هذا الميدان هو المرجِّح الذى لديه القدرة بما حَصَّله من علم وتلقٍّ من جهابذة العلماء على الموازنة بين أقوال الفقهاء ليتخير الأولى بالاتباع من بينها، وهذه القدرة لا يمتلكها كثير ممن يشار لهم بالبنان فى زماننا، فما بالنا بأدعياء العلم اليوم؟! ويشدد على أنه إذا كان الاجتهاد لاستنباط أحكام الفروع الناشئة فى حياة البشر، وإعادة النظر فى بعض المسائل الفقهية بما يناسب الزمان والمكان والأحوال، أصبح ضرورة الآن، فإنه ينبغى معرفة أن الاجتهاد ليس كلأ مباحًا، فهو مسلك صعب وطريق محفوف بالمخاطر العظام، من سلكه من غير امتلاك أدواته وتحصيل مؤهلاته فهو كسالك فى درب مظلم ليس معه ما يستضيء به ولا يعرف شيئًا عن خريطة دربه، فإنه لا محالة سيتخبط يمينًا وشمالًا بغية الوصول إلى هدفه، وغالبًا ما سيضل طريقه ويضل مَن معه. ويشير د.على جمعة، إلى خطورة الخروج على الجماعة العلمية والانفصال عن الإجماع واللغة والمآلات والمصالح والمقاصد، ونحو ذلك من الضوابط، ومن عدم إدراك الواقع، ومن فقد ملكة الإفتاء؛ مشيرًا إلى أن كل ذلك يُذهب الدين والدنيا معًا وهو نوع من أنواع التطرف والإرجاف الذى يهدد الأمن المجتمعي، والأمن المجتمعى بخلاف الأمن الاجتماعي، مجتمع يسير بسقف هو سقف الشريعة الإسلامية، فيخرج علينا أحدهم بمصطلحات جديدة تحتاج إلى تحرير، خروجًا عن الجماعة العلمية، خروجًا عن المنهج الموروث، خروجًا عن كيفية التعامل مع القرآن ومع السنة ومع التراث الإسلامي، وكيفية استنباط مناهجه وعدم الوقوف أمام مسائله؛ لأن المسائل زمانية والمناهج، إنما هى مكون من مكونات العقل المسلم المجتهد والمجدد. ويشير إلى تكلم علماء الأصول على هذه الحالة وأسموا مَن خرج عن الجماعة العلمية من ناحية، ثم خرج عن القواعد المرعية من ناحية أخرى، ثم لم يبال بإجماع ولا بمصالح ولا بمقاصد ولم يحسب المآلات التى يؤول بها الحال ب«المفتى الماجن»، وتكلموا عن أحكام المفتى الماجن فراجعوها فى محلها. فالشذوذ الإفتائى الذى يفعله المفتى الماجن لم يفرق بين الفقه والإفتاء والقضاء، ومنصوص فى كتب العلماء عبر التاريخ الفرق بين الفقه المجرد الذى يصلح أن ينقل العالم به ما تعلمه من جيل إلى جيل، والإفتاء الذى لابد فيه من ثلاثة أركان: الركن الأول: إدراك النص، والنص ينقسم إلى قسمين كبيرين: (نص مقدس) فيه نوع من أنواع الإثبات والثبوت بالسند المتصل، وبالقراءة المتواترة، أو بالسند الصحيح، وقراءة الآحاد، من كتاب ومن سنة، لكنه نص مقدس لأن القرآن كلام الله، ولأن السنة هى التطبيق المعصوم الوحيد لكتاب الله، وفى السنة بَيَّن لنا كيف يتم تغير الأحكام بتغير الزمان إذا كانت مبنية عليه، وكيف أن هناك أحكامًا ثابتة مطلقة عن الزمان والمكان والأشخاص والأحوال تتعداها، فقال: «فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِى وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِى» فأدخل زمنًا بعد زمنه فى حالة وجوده وفى حالة انتقاله الرفيق الأعلى صلى الله عليه وآله وسلم، حتى نتعلم من أولئك الأكابر الذين رضى الله عنهم ورضوا عنه وكانوا وزراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قال فى شأنهم ما قال، فسمى أبو بكر وعمر بالوزيرين، وكان يقول فى شأن على: «أنا مدينة العلم وعليٌّ بابها»، والتى يعتبر الشذوذ عنها إنما هو شذوذ عن الجماعة العلمية وبالتالى فيه فساد للدين والدنيا معًا.