في الذكرى الثالثة والأربعين لتحرير سيناء، تتجلى أمام أعيننا صفحات من المجد التي خطتها أيادي المصريين على رمال هذه الأرض الطاهرة، من أقصى شمالها إلى أقصى جنوبها. إنها ليست مجرد أرض، بل مسرحٌ تاريخي لبطولات خالدة بدءًا من طرد الهكسوس، ومرورًا بملاحم الأنبياء، وانتهاءً بتحرير طابا ورفع العلم المصري خفاقًا على آخر ذرة تراب في مارس 1989. وفي هذا السياق، يؤكد خبير الآثار الدكتور عبد الرحيم ريحان، عضو لجنة التاريخ والآثار بالمجلس الأعلى للثقافة ورئيس حملة الدفاع عن الحضارة، أن سيناء تمثل ذاكرة حية للأمة، حفرت بطولاتها في سجل الزمن بحروف من نور، وكانت على الدوام موطنًا للتحدي والانتصار، وحضنًا آمنًا للأنبياء، وملتقى الحضارات. ◄ سيناء في فجر التاريخ.. مسكن الإنسان الأول يشير الدكتور عبد الرحيم ريحان إلى أن الإنسان السيناوي تفاعل منذ أقدم العصور مع بيئته الطبيعية، واستغل مواردها لصالحه. فقد عاش في مساكن حجرية تُعرف باسم "النواميس"، وتعود بحسب الدراسات إلى عصر البرونز المبكر، مما يؤكد أن استيطان الإنسان لسيناء يعود إلى أعماق الزمن. يوضح الدكتور ريحان أن قدماء المصريين كانوا يبعثون بفرق إلى سيناء لتعدين الفيروز في سرابيط الخادم والنحاس في وادي النصب، مستخدمين موانئ أبو زنيمة وأبو رديس كنقاط انطلاق. وقد تركت هذه البعثات خلفها نقوشًا ورسومًا توثق نشاطاتها، لا تزال تدهش الباحثين حتى اليوم. ◄ طريق حورس.. طريق الحروب والانتصارات ويؤكد الدكتور ريحان أن طريق حورس في شمال سيناء كان طريقًا عسكريًا بالغ الأهمية، عبره دحر المصريون الهكسوس، واستخدمه رمسيس الثاني لقمع تمرد مملكة خيتا، مما يجعل هذا الطريق أحد رموز العزة العسكرية في التاريخ المصري. بحسب الدكتور ريحان، فإن الطريق الساحلي في شمال سيناء تميز بخصائص جعلته مفضلًا للتجارة والغزوات على السواء. فقلة الرمال واعتدال الهواء وسهولة تأمينه من البحر جعلته شريانًا حيويًا، ازدادت أهميته في العهد الروماني ثم في عهد الإمبراطور جستنيان الذي سعى لحماية حدود مصر الشرقية من غارات الفرس. ◄ الأنباط وحضارتهم في سيناء يشير الدكتور ريحان إلى أن الأنباط تركوا بصمتهم الحضارية في سيناء، حيث أنشأوا طريقًا يبدأ من أيلة (العقبة حاليًا) إلى ميناء دهب، ثم إلى وادي فيران وصولًا إلى ميناء القلزم. كما استخرجوا المعادن وتركوا نقوشًا وآثارًا، خاصة في دهب وقصرويت. يبرز الدكتور ريحان البعد الروحي لسيناء، مشيرًا إلى أنها كانت ملجأً آمنًا للأنبياء، إذ عبرها النبي يوسف وأسرته، وكانت موطنًا للعائلة المقدسة في رحلتها المقدسة إلى مصر، وهو ما أضفى على المكان قدسية جعلته مهدًا لحركة الرهبنة في القرن الثالث الميلادي. ◄ الرهبنة المسيحية وآثارها في سيناء يذكر الدكتور ريحان أن سيناء شهدت نشأة أول أبرشية مسيحية في وادي فيران في القرن الرابع الميلادي، كما عُثر على آثار العديد من الأديرة والكنائس في شمال سيناء، مما يدل على عمق الوجود المسيحي في المنطقة. يشير الدكتور ريحان إلى أن دخول عمرو بن العاص لمصر عبر سيناء عام 640م كان بداية انطلاقة الحضارة الإسلامية في مصر، ومن ثم كانت سيناء مسرحًا لصراعات مع الصليبيين والفاطميين، مثل حملة بلدوين الأول، الذي مات بسيناء ودُفن لاحقًا في القدس. ◄ صلاح الدين وعبقرية التخطيط العسكري يبين الدكتور ريحان كيف أن صلاح الدين الأيوبي استخدم سيناء كمسرح لانطلاق حملاته، فشيد قلعة بجزيرة فرعون بطابا وقلعة الجندي برأس سدر، وأنشأ طريقًا خاصًا عبر سيناء، دافع من خلاله عن طريق الحجاج إلى مكة، ودحر حملة أرناط على قلعة طابا. يضيف الدكتور ريحان أن المماليك البحرية أعادوا السيطرة على أيلة بعد احتلال الصليبيين لها، ومنحوا الطريق الواصل بين السويس وأيلة أهمية كبيرة كطريق للحج، واستمر استخدامه حتى عام 1884. كما تم اكتشاف ميناء الطور المملوكي الذي لعب دورًا تجاريًا مهمًا. ◄ العثمانيون وتحصينات سيناء يوضح الدكتور ريحان أن العثمانيين تابعوا نهج المماليك في حماية طرق الحج، فبنى السلطان سليم الأول قلعة الطور، وشيد السلطان سليمان القانوني قلعة العريش، وأعاد ترميم قلعة نخل، مما أضاف إلى خريطة التحصينات الاستراتيجية لسيناء. اقرأ ايضا| سيناء تنطلق نحو المستقبل.. مشروعات عملاقة تغير وجه الإقليم بدعم حكومي| إنفوجراف يلفت الدكتور ريحان إلى أن محمد علي أدرك أهمية سيناء، فأرسل المهندس الفرنسي لينان عام 1825 لرسم أول خريطة حديثة لها، كما قام عباس الأول ببناء منشآت سياحية وخدمية، منها حمام فوق النبع الكبريتي بطور سيناء وقصر على جبل تلعة. ◄ نويبع.. بوابة عسكرية متقدمة يبرز الدكتور ريحان أن نويبع احتضنت أقدم مركز بوليس بسيناء منذ عام 1893، مما يدل على القيمة الأمنية لهذه البقعة الجغرافية المهمة، بالإضافة إلى قصر عباس ومساكنه التي شُيدت بسانت كاترين. يشدد الدكتور ريحان على أن سيناء كانت ساحة معارك كبرى في العصر الحديث، بداية من العدوان الثلاثي عام 1956، مرورًا بنكسة 1967 التي قسمت فيها إسرائيل سيناء إلى منطقتين وأقامت مستوطنات فيها، مثل ياميت وذي هاف وأوقيرا. ◄ انتصار أكتوبر وبداية التحرير يوضح الدكتور ريحان أن نصر أكتوبر 1973 كان نقطة التحول الكبرى التي قادت إلى توقيع اتفاقية كامب ديفيد عام 1979، والتي وضعت أسس استرداد سيناء، حتى تحقق الانسحاب الكامل منها عام 1982، وتوّج ذلك برفع العلم على طابا في 19 مارس 1989. ويؤكد الدكتور عبد الرحيم ريحان أن سيناء ستظل شاهدًا خالدًا على بطولات المصريين عبر العصور، من دحر الغزاة إلى بناء الحضارات، ومن احتضان الأنبياء إلى صد الغزوات، ومن معارك التحرير إلى الاحتفال بالنصر. إنها البوابة الشرقية لمصر، ومفتاح تاريخها العريق، ودرعها المتين على مر العصور.