إذا سألت أحد أبناء جيل زد من مواليد الألفية إذا كان يعرف أشرطة الكاسيت، سينظر لك باستغراب ودهشة وربما عدم فهم، عندما تحكى له أن الكاسيت كان فى لحظة قريبة قبل عقود قليلة ثورة تكنولوجية سيضحك غير مصدق، فشريط الكاسيت الذي تربي عليه أبناء السبعينيات والثمانينيات تحول الآن إلى ما يشبه مخلفات عصر، قطعة أنتيكة أو مجموعة «كراكيب» فى زاوية منسية فى البيوت، لكن أبناء جيل الألفية ستصيبهم الصدمة عندما يقرأون كتاب (إعلام الجماهير: ثقافة الكاسيت فى مصر)، الصادر حديثا للباحث الأمريكي أندرو سايمون، الذى يقدم فيه صورة حيوية لدور أشرطة الكاسيت فى صناعة زخم المجتمع المصرى ثقافيًا وفنيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. ◄ «إعلام الجماهير» يحلل ظواهر عالم الكاسيت فى مصر بكل المجالات ◄ عبر عن الرغبة فى الارتقاء الطبقى أيام الانفتاح و«عقود الخليج» ◄ عدوية والشيخ إمام والشيخ عنتر ظواهر صنعها «الكاسيت» وحللها الباحث سايمون سايمون قدم قراءة شديدة الذكاء والجاذبية لفترة مهمة من تاريخ مصر تتعلق بالعقود الختامية من القرن العشرين، عبر تحليل انتشار استخدام الكاسيت فى مصر والذى ازدهر مع سبعينيات القرن الماضى حتى بداية الألفية الجديدة قبل أن يتراجع وينزوى ويتحول إلى حفرية تاريخية بالنسبة للأجيال الشابة فى يومنا هذا، المدهش أن سايمون وفى إطار تأريخه المدهش للمجتمع المصرى من زاوية انتشار ثقافة الكاسيت ثم تراجعها واندثارها، استخدم مادة أرشيفية متنوعة كان من أبرزها أعداد مجلة «آخرساعة»، التى كانت ولا تزال عينًا على الأحداث فى مصر ترصد وتسجل ما يجرى فى بر المحروسة، لتظل الأرشيف الحى للذاكرة المصرية. ◄ أرشيف الظل الكتاب فى الأصل دراسة أكاديمية لأندرو سايمون صدرت عن جامعة ستانفورد فى 2022، ثم ترجمها إلى العربية بدر الرفاعى وصدرت فى كتاب عن دار الشروق العام الجاري، ويتناول مرحلة مفصلية من تاريخ مصر، تشمل السنوات الأخيرة من حكم الزعيم جمال عبدالناصر وسنوات حكم الرئيسين أنور السادات وحسنى مبارك، لكن من منظور مختلف هو التركيز على ثقافة الكاسيت التى تعكس بحسب الباحث، كل التفاعلات فى المجتمع المصرى وتعبر عنها فى فترة التحول من نظام اشتراكية الدولة إلى اقتصاد السوق الحر والانفتاح الاقتصادي، ويستخدم فى ذلك ما أطلق عليه مسمى «أرشيف الظل»، أى الوثائق غير الرسمية التى يمكن أن تجدها فى أى مكان خصوصًا أسواق بيع الأشياء القديمة، يشمل ذلك أعداداً قديمة من المجلات وأشرطة كاسيت وصوراً تخلص منها أصحابها أو ورثتهم، وهى مادة أولية عندما تستخدم معا تكشف عن صورة أكبر تتسع لتحليل ظاهرة شاملة مثل انتشار أشرطة الكاسيت فى مصر وانعكاس ذلك على المجتمع ككل. سايمون اعتمد بالأساس فى كتابه على مجلتى «روزاليوسف» و»«آخرساعة»»، إذ يقول: «وفى محاولة لبيان ما يمكن أن تقدمه الصحافة لفترة أحدث من ماضى مصر، سنجرى قراءة مستدامة لمجلتين رئيسيتين... وتغطى مجموعة كبيرة من الأمور الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية أسبوعيًا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين... وأولى هاتين المجلتين هى روزاليوسف التى ظهرت فى 1925، حاملة اسم مؤسستها الممثلة المعروفة. وبدأت المجلة التى خصصت بالأساس للأمور الفنية، فى إبداء المزيد من الاهتمام بالسياسة بحلول 1926، وسرعان ما أصبحت واحدة من أبرز المجلات فى مصر. ويعود هذا النجاح، فى جانب منه، إلى محررها محمد التابعي، الذى ترك روزاليوسف نهائيًا فى 1934 ليؤسس مجلة أسبوعية ثانية هى ««آخرساعة»»، التى حظيت هى الأخرى بجمهور كبير»، والباحث الأمريكى يشدد هنا على أن استخدام أرشيف المجلتين يفتح الباب على مصراعيه أمام مادة أرشيفية مهمة لتاريخ مصر، قائلا إن «الإمكانات الكاملة للصحافة المصرية كمصدر تاريخى ظلت غير مدركة». ◄ بريد المجلة استخدم الباحث أعداد مجلة «آخرساعة» ضمن مادة أرشيفية متنوعة باحترافية شديدة، فقدم من خلالها قراءة ذكية لواقع ثقافة الكاسيت فى مصر خلال خمسين سنة على وجه التقريب، فهو يستخدم بريد القراء فى المجلة لقياس التعاطى الشعبى مع ظاهرة انتشار الكاسيت التى أثرت على سوق الغناء فى مصر، إذ أصبح فى إمكانية أى شخص أن يغنى وتسجيل صوته على أشرطة توزع من قبل شركات غير مرخصة، فى وقت تراجعت الإذاعة المصرية عن بث الأغاني الجديدة، وهو ما رصدته شكوى مواطن يدعى صلاح متولى أرسل إلى بريد قراء («آخرساعة»)، يطالب المجلة بتوصيل صوته إلى الإذاعة لتجديد الدماء بتقديم محتوى جديد، بدلا من أن «تعيش على فتات عمالقة الطرب الذين رحلوا عن دنيانا»، ونشرت رسالته فى عدد 18 مايو 1988م. كما يستخدم تحقيق صحفى نشر فى ديسمبر 1980م، والذى جاء بعنوان «لغز البصمة السادسة وراء أكبر عملية نصب»، والذى يرصد فيه الصحفى رأفت بطرس قصة صعود وفيق فايد اللص الذى يمتلك أصبعًا سادسًا صغيرًا فى يده، والذى كان يتعمد أن يترك بصمته فى الوحدات السكنية التى يسرقها الأمر الذى ضلل الشرطة لفترة طويلة لاعتقادهم أن البصمة لطفل، قبل أن يتم القبض عليه ويتم مصادرة مسروقاته من الأجهزة الكهربائية التى يأتى فى مقدمتها أجهزة الكاسيت، التى أصبحت موجودة فى كل بيت مصري، وهى نوعية الحوادث التى يتتبعها آندرو سايمون ليثبت انتشار الكاسيت وبالتالى ظهور السوق السوداء لبيع أجهزة الكاسيت ما استتبع تقديم الشركات لعروض وتخفيضات هائلة. ◄ السياق الاجتماعي ويستخدم سايمون منهج مؤرخى التقنية الذين يهتمون بالسياق الاجتماعى أى الاستخدام اليومى للتقنية؛ البشر العاديون وكيف يتفاعلون مع تقنية جديدة مثل أشرطة الكاسيت، وكيف عبروا من خلالها عن كثير من تحولات مجتمع مثل المجتمع المصرى فى الثلث الأخير من القرن العشرين. يميل المؤلف إلى دراسات الصوت ودراسات الحواس التى يمكن أن نرى لمحة منها فى الطريقة التى بنى بها خالد فهمى كتابه (السعى للعدالة) تأسيسًا على الحواس الخمس. هنا يتعمق سايمون أكثر فى استخدام تقنيات دراسات الصوت تاريخيًا وأنثروبولوجيًا، ولا يتوقف عند الدراسات التى توقفت عند الاستخدام الإسلاموى لشريط الكاسيت، بل يتعمق أكثر فى تحليل الظاهرة التى يتحدث فيها عن استخدام الكاسيت كأداة لتحدى الثقافة الرسمية المهيمنة بداية من الفن والغناء، لتصبح الظاهرة الأولى مجرد جزء من مشهد أوسع وأكثر تعددية هيمنت فيه العديد من الأصوات من مختلف التوجهات على صدارة المشهد. لا يتوقف المؤرخ الأمريكى عند ازدهار استخدام أشرطة الكاسيت كأداة للتواصل بين الأسر وأبنائهم المغتربين، بل ينخرط فى تقديم قراءة مختلفة عن استخدام الكاسيت فى نشر ثقافة شعبية عبر السماح للكثير من الأصوات التى لم يكن لديها القدرة على العبور إلى القاعدة العريضة بسبب سيطرة مؤسسات رسمية على الإنتاج الفني، الأمر الذى ساعد فى تغيير المشهد الفنى فى مصر بشكل جذرى وسمح بظهور أصوات فى مجالات مختلفة لم يكن من الممكن أن تصل إلى آذان المستمعين إلا بفضل الكاسيت، وهو يضرب أمثلة من نوعية ظاهرة المطرب الشعبى أحمد عدوية، الذى تعرض لحملات من ممثلى الفن الرفيع والرسمي، لكنه فرض نفسه من خلال استخدام آلية الانتشار عبر الكاسيت، حتى أن نجيب محفوظ هاجمه فى البداية ثم عاد واعترف بموهبته وتمثيله لحالة حقيقية فى الشارع. ◄ اقرأ أيضًا | لماذا نحتفظ ب«الكراكيب»؟ ما لا تعرفه عن مرض «اضطراب التخزين» ◄ الظاهرة الصوفية كما يحلل المؤرخ الأمريكى ظاهرة الشيخ إمام الرافضة لمسار التطبيع والانفتاح وهى ظاهرة صوتية انتشرت فى العالم العربى بسبب الكاسيت، ضاربا المثل بأغنية إمام الشهيرة «شرفت يا نكسون بابا»، التى تحدى بها السردية الرسمية الاحتفالية بزيارة الرئيس الأمريكى نيكسون لمصر فى العام 1974 وقبل شهور قليلة من إجباره على الاستقالة من منصبه بسبب فضيحة «ووترجيت». ويختم سايمون بنموذج القارئ الشيخ عنتر مسلم الذى كان ظاهرة فى الثمانينيات، رغم ما فى صوته من خروج على كل آداب التلاوة، الأمر الذى أدى إلى انتفاضة المؤسسات الدينية ضده وإجباره على التراجع عن طريقته فى التلاوة، وهذه الظواهر التى شغلت الناس تزامنت مع تحول جهاز الكاسيت من أحد مكونات «كماليات البيت الحديث» كما روجت لها الإعلانات التى نشرتها المجلات وفى مقدمتها («آخرساعة»)، إلى إحدى أساسيات البيت، الأمر الذى انعكس فى حرص شخصيات عامة وفى مقدمتها الرئيس أنور السادات والموسيقار محمد عبد الوهاب على الظهور عبر صفحات المجلات بجوار جهاز الكاسيت، بينما هاجم الكثير من الأطراف الكاسيت باعتباره المسؤول الأول عن الانحطاط والتلوث السمعى وفساد الذوق الموسيقي. ويعتمد مؤلف (ثقافة الكاسيت) مقاربة أساسية فى كتابه بالكشف عن أن أشرطة الكاسيت سمحت بتنوع وحرية فى الاختيار الفنى للمستمعين، إذ يقول: «من الواضح أن أشرطة الكاسيت كانت تنقل أكثر من مجرد أصوات مثيرة للجدل فى منتصف وأواخر القرن العشرين. والحقيقة أن الأشرطة الصوتية كانت حيوية للحياة المادية والاجتماعية لجميع الأصوات من السبعينيات إلى التسعينيات وما بعدها. وفى بعض الأحيان كانت الأشرطة تتحدى الهيمنة التجارية والثقافية للأيقونات التى تسمح بها الدولة، كما أنها عززت نجومية نفس الفنانين. وهذا يعنى أن أشرطة الكاسيت كانت تبث فى وقت واحد أم كلثوم وأحمد عدوية وعبد الحليم حافظ ومايكل جاكسون وأنور السادات والشيخ كشك، وأى شخص لديه إمكانية الوصول إلى جهاز تسجيل». قراءة زكية يقدم كتاب (إعلام الكاسيت) قراءة شديدة الذكاء لفترة تحولات مهمة فى تاريخ مصر تستغرق العقود الختامية من القرن العشرين، ليثبت من خلال التأريخ لتقنية لإعادة التأريخ لحركة المجتمع ورصدها بصورة مبهرة تكشف عن طبيعة التحولات التى مر بها المجتمع المصرى فى لحظة الانفتاح وما جرته من تغيرات عميقة فى مختلف مناحى الحياة فى مصر، كما يفتح الكتاب الباب واسعًا على نوعية جديدة من الكتب التى تستخدم مدخل تاريخ الأشياء الجامدة كمنطلق حيوى لإعادة التأريخ لمصر بشكل أكثر حيوية وفى طبيعة كتب مقدمة لشريحة أوسع من القراء ولا تتوقف عند خانة المتخصصين والمهتمين بالحقل التاريخي، إن عمل سايمون خطوة على طريق تقديم كتابة تاريخية مشوقة وقريبة من رجل الشارع وتطرح موضوعات تقدم تاريخ مصر من زوايا مختلفة تغنى رؤيتنا لتاريخ بلادنا.