«سيناء ليست مجرد (صندوق من الرمال)، كما قد يتوهم البعض، إنما هى (صندوق من الذهب)، مجازًا كما هى حقيقة، استراتيجيًا كما هى اقتصاديًا». هكذا لخص العبقرى جمال حمدان رؤيته لسيناء، فى كتابه الممتع «سيناء فى الاستراتيجية والسياسة والجغرافيا»، محاولًا أن يجمع فى كلمات قليلة معانى كبيرة وحقائق راسخة حول ذلك المثلث الذى لا يزال يحمل من الأسرار أكثر بكثير مما باح به. يجزم صاحب «شخصية مصر» بأن سيناء - استراتيجيًا - ليست مجرد فراغ أو حتى عازل، إنما هى «عمق جغرافى وإنذار مبكر يمكن أن نشترى فيه الزمان بالمكان»، إنها ككل خط الدفاع الأخير عن مصر الدلتا والوادى، إذا كانت فلسطين هى الخط الثانى وسوريا الخط الأول. ■■■ ورغم تحولات الزمان وتغيرات المكان فى منطقتنا ومن حولها، تظل سيناء واحدة من أهم البقاع التى صُنع على أرضها التاريخ، ولا تزال تحمل من عناصر الأهمية وعوامل الدور، ما يجعلها فى قلب اهتمامات الدولة المصرية. واليوم ونحن نستعيد ذكرى تحرير سيناء، فإن استلهام تلك الصفحة المجيدة من تاريخنا يدفعنا إلى تأمل مكانة سيناء الموقع والموضع فى العقل والوجدان المصرى، فلطالما كانت ل «أرض الفيروز» مكانة سامية فى قلوب المصريين على مر التاريخ، ويندر أن تجد حاكمًا مصريًا فى أى من العصور لا يباهى بما تركه من آثار على أرض سيناء، سواء كان ذلك تحصينًا لها من غدر الطامعين، أو تعميرًا لها لجذب الطامحين. سيناء كانت ولا تزال ساحة اختبار الوطنية المصرية، رمالها شاهدة على تضحيات ينحنى أمامها التاريخ، ودروبها لا تزال تحتفظ بحكايات وبطولات لرجال رفضوا التفريط فى أرضهم، فالأرض فى عقيدة المصرى «عِرض»، والتفريط فى العِرض لدى أبناء الكنانة دونه الموت. وهكذا ظلت أجيال من المصريين على العهد مع الأرض والعِرض، يدفعون حياتهم برضا ثمنًا لبقاء أرضهم حرة، ويتسابقون عن طيب خاطر للفداء لكى يطهروا عِرضهم من دنس الاحتلال، ويتنادون بشجاعة وجلد ليكونوا على قلب رجل واحد عندما يستشعرون خطرًا يحيق بحبة رمل من أرضهم، فهكذا عاش المصريون منذ آلاف السنين قصة عشق لا تنتهى بين الإنسان والمكان. ■■■ وظلت سيناء دائمًا درة العقد وقدس أقداس الأرض المصرية، منذ كانت «طريقًا للحرب» فى استراتيجية الأمن القومى المصرى التى كانت دائمًا ما تعتمد على نقل مواجهة مصادر الخطر خارج الحدود، إلى أن سعى الأعداء (الظاهرين والكامنين) إلى تحويل سيناء إلى «أرض للحرب»، فلم يتوان المصريون عن الاستجابة للتحدى، وأثبتوا فى كل فصل للمواجهة أنهم سادة الأرض، وأصحاب الحق، وأبطال الواجب. فى أكتوبر 1973، كتب المصريون فصلًا بطوليًا من القتال من أجل «تحرير» الأرض، وفى أبريل 1982 دونوا سطرًا جديدًا فى كتاب القدرة المصرية على استخدام التفاوض وصناعة السلام وسيلة لاستكمال استعادة الأرض، وفى سنوات ما بعد ثورة 30 يونيو 2013 بدأوا فصلًا جديدًا من النضال والفداء فى معركة «تطهير» الأرض من أفاعى الإرهاب وعقارب التطرف، فكان لهم النصر المبين. واليوم وبينما تتعاظم التحديات من حولنا وتتجدد الأطماع التى لم تخمد يومًا، يكتب المصريون فصلًا جديدًا فى «تعمير» الأرض لتكون صندوقًا حقيقيًا من الذهب، الذى ينعم فيه المصريون وحدهم ودون غيرهم - بجنى ثمار تنمية واعدة ويحصدون ما زرعوه على مدى سنوات طويلة من عمران وبناء. ■■■ إن الاحتفال والاحتفاء اليوم بالذكرى الثالثة والأربعين لتحرير سيناء له مذاق خاص، ورمزية لا تخلو من دلالات كبيرة، فهى تأكيد متجدد على عبقرية الشخصية المصرية التى لم يكن خيار التفريط فى الأرض بأية صورة من الصور مطروحًا فى يوم من الأيام فى قاموس تفكيرها أو خطابها السياسى أو الشعبى. وهذه الذكرى أيضًا تجسيد لصلابة الإرادة المصرية فى صياغة واقع ومستقبل، تخطه الأيادى المصرية وتنسجه أنامل الملايين من المصريين الذين لم يستسلموا يومًا أمام التحديات، ولم يتخاذلوا لحظة عن تلبية نداء الوطن. إن سيناء اليوم غير سيناء التى كانت فى 1967 أو 1973، أو فى 1982.. سيناء اليوم لوحة مشرقة بهية ساهم ملايين المصريين فى رسم ملامحها بدمائهم وعرقهم، ووضعت خطوطها قيادة آمنت بهذا الوطن، وأيقنت أن سيناء ليست مجرد قطعة أرض، لكنها قلب يستمد منه الجسد المصرى كله نبض الوطنية، وتتدفق عبرها فى شرايينه دماء الحب المقدس للوطن، والرغبة الراسخة فى بناء الحضارة وصناعة التاريخ. من حقنا اليوم أن نفخر بما حققه هذا الشعب العظيم، وبما أنجزته قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسى الواعية للوطن، والتى سجلت على أرض سيناء تاريخًا مجيدًا لعصره قبل أن يكون لشخصه. ومن واجبنا اليوم أن نحيى رؤية القيادة السياسية التى جسدت ثوابت مصر الاستراتيجية، واتخذت من المواقف القوية والمشرفة ما يحافظ على الدولة المصرية ومنجزاتها فى ظل محيط إقليمى متلاطم الأمواج ومتشابك الأبعاد، وأن تلعب دورًا يوازن فى مصالح مصر العليا، وبين أدوارها فى الإقليم، وإسهاماتها فى العالم. كل عام وسيناء حرة، أبية، بهية، ومصر قادرة، قوية، وقيادتها واعية، حكيمة، فتية.