تعيش فرنسا على صفيح ساخن سياسيًا، بعد حكم قضائي صدر ضد زعيمة المعارضة ماريان لوبان، ومنعها من المشاركة في الحياة السياسية، كما حكم عليها بالسجن ودفع غرامة بجانب العديد من أعضاء الحزب اليميني، في تهم فساد واختلاس، وهي الخطوة التي وصفها الخبراء بأنها قد تنهي مسيرتها نهائيًا. أشعل ذلك الأمر فتيل أزمة سياسية كبرى في أنحاء فرنسا، وانقسمت الأمور بين مؤيد ومعارض، واتخذت منحنى متصاعدا أدى إلى خروج تظاهرات وتظاهرات مضادة، وسط اتهامات متبادلة بتعرض الديمقراطية للخطر، وانتهاك مبدأ فصل السلطات، وما بين حماية البلاد من خطر التطرف، وتعرض القضاة للتهديد بالقتل. أدانت محكمة باريس، ماريان لوبان، زعيمة التجمع الوطني و النائبة عن الحزب الوطني الفرنسي في منطقة بادو كاليه الشهيرة، بتهمة اختلاس أموال عامة تصل قيمتها إلى 474 ألف يورو، في قضية المساعدين البرلمانيين للتجمع الوطني في البرلمان الأوروبي، وبالسجن أربع سنوات وغرامة قدرها مائة ألف يورو وخمس سنوات من عدم الأهلية. كما أصدرت المحكمة حكمًا بإدانة تسعة نواب في البرلمان الأوروبي من الحزب نفسه بتهمة اختلاس أموال عامة، كما أدين 12 مساعدا كانوا يعملون لصالح الحزب اليميني الذي يوصف بالمتطرف بتهمة استلام سلع مسروقة، وقدرت المحكمة الأضرار الإجمالية بنحو 2.9 مليون يورو. ووفق لائحة اتهام النيابة العامة، كانت زعيمة المعارضة في مركز نظام منظم لاختلاس الأموال العامة، داخل جدران البرلمان الأوروبي، والتي بدأت ببلاغ من مجهول تلقاه المكتب الأوروبي لمكافحة الاحتيال محذرة من حالات التوظيف الوهمي التي تتم من جانب الجبهة الوطنية، التي جلست في البرلمان الأوروبي من 2004 إلى 2017. ويشتبه في قيامها في تلك الفترة بإنشاء «نظام اختلاس» أموال يدفعها الاتحاد الأوروبي بهدف توظيف متعاونين برلمانيين، من أجل تمويل الأنشطة السياسية للحزب اليميني المتطرف، وقدرت وقتها الأضرار بنحو 7 ملايين يورو من قبل البرلمان الأوروبي، وبحسب صحيفة لوباريسيون، كان يتم دفع رواتب لأشخاص وهميين. وفي مارس 2016 اتخذت القضية أبعادًا أكبر حيث أحال رئيس البرلمان، المخالفات المتعلقة بالرواتب المدفوعة للموظفين الآخرين إلى المكتب الأوروبي لمكافحة الغش، وتم إبلاغ وزارة العدل الفرنسية بهذه التحقيقات، بعد أن لاحظ أن عشرين مساعدًا برلمانيًا ظهروا أيضا في الهيكل التنظيمي للجبهة الوطنية، بل أن بعضهم يشغل مناصب رئيسية مع مارين لوبان والرئيس الفخري السابق للحزب، جان ماري لوبان. تمويل حزب غير قانونى وقدر البرلمان الأوروبي الأضرار الناجمة عن هذا النظام بنحو 6.8 ملايين يورو، بين عامي 2004 و2016، وتم مطالبتها بسداد ما يقرب من 340 ألف يورو، ورفضت دفع المبالغ المطلوبة، إلا في يوليو 2023، ولكن الأمور ساءت بعد ذلك حيث فتحت العدالة الفرنسية تحقيقًا أوليًا في مارس 2015 بتهمة خيانة الأمانة، معتبرة أن هذه الوقائع قد تكون مشابهة لتهمة تمويل حزب غير قانوني. وأدت التحقيقات، إلى سلسلة من عمليات التفتيش، وجمع المحققون الشهادات والوثائق المتعلقة بالتوظيف، ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، وفتح تحقيق قضائي في ديسمبر 2016 يتهمها بخيانة الأمانة، والاحتيال الجماعي المنظم، والتزوير والعمل المستتر، ومنذ بدء التحقيق واجهت لوبان عشرين لائحة اتهام. وفي ديسمبر 2023، وصلت نهاية التحقيق الذي دام تسع سنوات، حيث طلب قضاة التحقيق إحالة الجبهة الوطنية وسبعة وعشرين من قياداتها وموظفيها إلى العدالة، معتبرين مارين لوبان لعبت دورًا مركزيًا في هذه القضية ومتواطئة في توفير الأموال للحزب اليميني المتطرف باستخدام المظاريف الشهرية لأعضاء البرلمان الأوروبي في تحدى للقواعد الديمقراطية. الساحة السياسة لم تهدأ ويجعل هذا القرار زعيمة المعارضة، غير مؤهلة للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2027، وأكدت المحكمة أنها وقعت على القرار بناء على القانون والسلطة، وليس لديها شك في وجود نظام لتنفيذ اختلاس الأموال العامة، مشددة على أن الحكم لا ينتهك مبدأ فصل السلطات ويعود للمحكمة إصداره في ضوء خطورة الوقائع، وهو ما جعل ذلك الحكم ضروريًا. وأمام ذلك الحكم، أعلنت ماريان لوبان عزمها لاستئنافه، وتلقت محكمة باريس 3 طعون الأول لصالح زعيمة المعارضة الوطنية والثاني لصالح الحزب، والثالث يتعلق باستئناف المساعدين البرلمانيين، وأعلنت المحكمة أنها ستدرس الملف ضمن إطار زمني يسمح باتخاذ القرار في صيف عام 2026. وعلى الرغم من قبول الاستئناف، إلا أن الساحة السياسة لم تهدأ، وبعد يوم واحد، نظم الجبهة الوطنية هجومًا سياسيًا وإعلاميًا، وأطلق عريضة للتنديد بما وصفه بفضيحة ديمقراطية ومحاولة لمنع انضمامه إلى الإليزيه بكل الوسائل، ووصفت مارين لوبان الحكم بأنه قنبلة نووية أطلقها النظام، واستخدامه لهذا السلاح يعكس خوف الإليزيه من فوزهم الوشيك في الانتخابات. وفي المقابل أطلق الحزب الاشتراكي عريضة مضادة لتذكير الفرنسيين بأنه لا ينبغي لأحد أن يتمكن من الإفلات من القانون، وشدد على أن الديمقراطية ليست هي المهددة بإدانة زعيم سياسي بجرائم خطيرة، ولكن من وجهة نظرهم ما يهدد الديمقراطية هو الإفلات من العقاب، والضغط على القضاة، ورفض السياسيين تحمل مسئولياتهم وعواقب أفعالهم، ودعا إلى حشد المواطنين للدفاع عن استقلال العدالة ودعمها. هجمات على القضاة ولم يتوقف الأمر عند الدعوة لحشد التظاهرات، بل فتحت السلطات الفرنسية أيضا تحقيقًا جديدًا في أعقاب تهديدات بالقتل وجهت إلى قضاة المحكمة الجنائية في باريس الذين حكموا على ماريان لوبان، وأُسند التحقيق إلى فرقة مكافحة الجرائم ضد الأشخاص، وهو ما يعد ثاني تحقيق من نوعه منذ بداية العام. وأمام تلك الهجمة الشرسة، أصدر اتحاد القضاة الفرنسيين بيانًا ندد فيه بالتحديات العديدة للسلطة القضائية، والاتهامات بالعدالة الجزئية، والقرارات السياسية المخالفة لسيادة القانون وإنكار الديمقراطية، مشيرين إلى أن الهجمات على القضاة وتشويه سمعة النظام تحت تهمة العدالة المسيسة أمر لا يطاق في دولة يحكمها القانون. وأكد القضاة الفرنسيون أنهم يواجهون مؤامرات تستند على نظريات المؤامرة، في الوقت الذي يطبقون فيه القوانين التي صوت عليها ممثلو الشعب المنتخبون من قبل الأمة، ومهمتهم تتمثل في إيجاد توازن عادل، في إطار تطبيق القانون، بين طبيعة الجريمة ودرجة خطورتها والوضع الخاص للشخص الذي يتعين عليهم الحكم عليه. وبعدما ألقى النظام القضائي الكرة في ملعب المشرعين الفرنسيين، تدخل البرلمان الفرنسي على خط الأزمة، وقدمت أحزاب مؤيدة للجبهة الوطنية مشروع قانون لإلغاء قانون عدم الأهلية المعروف باسم «الإعدام المؤقت»، كونه يقضي بالإعدام السياسي على صاحبه، على أمل مناقشته واعتماده. مصير أوروبا بأسرها ولم يعد مصير فرنسا فقط هو الذي أصبح رهينة لهذا الحكم، بل مصير أوروبا بأسرها، حيث ينظر الاتحاد الأوروبي إلى الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة على أنها ليست قضية «فرنسية- فرنسية» فحسب، بل سيكون لها تداعيات حاسمة على الحياة السياسية في القارة بأكملها وسيكون لها دورًا حاسمًا في الأجندة الأوروبية وسيكون الموضوع الرئيسي هو الدفاع عن القارة وإعادة تسليحها. ويرى الخبراء أن ذلك القرار يحمل بعدًا سياسيًا، كون التجمع الوطني معروف بمعارضته للمؤسسات الأوروبية ومعاهداته، متهمين معارضيهم في المفوضية بإصدار تعليمات إلى النظام القضائي الفرنسي لمنع مارين لوبان من الترشح في الانتخابات، وهو ما يكشف أنه لا يوجد خيار ديمقراطي أمام من يقف ضد المعاهدات الأوروبية. وأكدوا أنه من السذاجة أن نتوقع من المؤسسة الفرنسية أن تُسلم البلاد إلى مارين لوبان، والتي تعني رئاستها تفكيك الإطار الأوروبي بأكمله الذي بُني على مدى الخمسين عامًا الماضية، ولذلك كانت نتيجة الانتخابات الفرنسية سيكون لها عواقب كبيرة على المستوى الأوروبي. الموقف الرهباني أما الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ووفقا لصحيفة أر تي إل الفرنسية، فاتخذ ما وصفته بالموقف الرهباني لتجنب الوقوع في فخين، الأول يتمثل في تعريض نفسه للخطر، إما أن يصبح ضحية لماريان لوبان أو أن يتمكن من إغراقها أكثر، والفخ الثاني، يتمثل في عدم الانخراط في النقاش العام حول الإعدام المؤقت. ولكن التصريح الوحيد المسموح به من قصر الإليزيه، هو أنه لطالما تشكل مبدأ عدم التسامح مطلقًا مع المسئولين المنتخبين، ولا يجوز التنديد اليوم بالطريقة التي يتم معاقبتهم بها، وأكدت الصحيفة أن الجميع في القصر يدركون الأن أنه إذا نجحت ماريان لوبان في النهاية من العودة من الجحيم والترشح، فسيكون هزيمتها أكثر صعوبة، وسيخلد ماكرون على أنه الشخص الذي انتظر اليمين المتطرف على درجات قصر الإليزيه وسلمهم المفاتيح. اقرأ أيضا: لوبان تعتبر إدانتها القضائية «قرارًا سياسيًا».. وتعد أنصارها ب«عدم الاستسلام»