بين طيات النقوش المقدسة وألوان الجدران التي لم تبهت رغم آلاف السنين، تقف مقبرة "سن نفر" بجمالها الأخاذ، لتروي لنا فصولًا من الطقوس الدينية التي عاشها المصري القديم بكل روحانية وخشوع. في أحد مشاهد هذه المقبرة، نرى عمدة طيبة "سن نفر" وزوجته الوفية "مريت" وهما يؤديان شعائر الحج إلى مدينة أبيدوس المقدسة، تلك الطقوس التي كانت جزءًا لا يتجزأ من العقيدة الأوزيرية المرتبطة بالإله أوزير، إله البعث والخلود، المشهد لا يُعبّر فقط عن عقيدة، بل عن ثقافة وروح وفلسفة حياة امتدت عبر آلاف السنين، ما يجعل من هذا المنظر وثيقةً مصورةً ناطقة بتاريخ مصر الديني والاجتماعي. المشهد ووصفه الفني نقش هذا المشهد على جدران مقبرة سن نفر رقم 96 بجبانة شيخ عبد القرنة، بغرب الأقصر، ويُعد من أبرز المشاهد الدينية التي تخلد طقوس الحج إلى أبيدوس، يظهر في المشهد "سن نفر" مرتديًا زيًا أبيض رسميًا، تعلو ملامحه مزيج من الوقار والسكينة، إلى جواره زوجته "مريت" ترتدي الزي الأبيض أيضًا، وهما في هيئة مهيبة، توحي بالخشوع والتقديس. اللون الأبيض في ملابسهما لم يكن عشوائيًا، بل يرمز إلى النقاء والتطهر، وهو تقليد اعتاد عليه المصريون القدماء أثناء أداء الطقوس المقدسة، وخاصة في المناسبات المرتبطة بالإله أوزير. يظهر خلفهما مشهد مركب جنائزي يبحر في نهر النيل، يُعتقد أنه مركب "نشمت"، المخصص للانتقال الطقسي إلى أبيدوس، المكان المقدس الذي اعتُبر مركز عبادة أوزير وموضع دفنه الأسطوري. ترجمة النص المرافق ودلالاته النص الهيروغليفي المرافق للمشهد يقرأ كالتالي: "خد إم حتب إر ابجو إر إيرت حبو أوزير إن حاتي عا إن نيوت رسيت سن نفر در إر تا إر حوت أوزير ونن .إي إم ذمسو نثرو وستن .إي إيوت .إي إم نشمت إمي ع نثر عا" وترجمته: "الإبحار في سلام نحو مدينة أبيدوس من أجل الاحتفال بعيد أوزير بواسطة العمدة حاكم المدينة الجنوبية "طيبة" سن نفر، كي أمهد الأرض نحو معبد أوزير وأكون من أتباع الإلهة، أذهب وأعود بواسطة مركب نشمت في معية الإله العظيم". يحمل هذا النص دلالات روحانية عميقة، حيث يُنظر إلى رحلة أبيدوس كرحلة أبدية تهدف إلى ضمان البعث والخلود في العالم الآخر، كون أوزير هو الإله الذي قُتل ثم بُعث حيًا، فأصبح رمزًا أزليًا للأمل في الحياة بعد الموت. يشير النص أيضًا إلى فكرة الاقتداء بالإلهة والانتماء لموكب الآلهة، وهو ما يعكس مكانة العمدة سن نفر الدينية والاجتماعية. طقوس الحج إلى أبيدوس كان موسم الحج إلى أبيدوس يُقام سنويًا مع بداية فصل الفيضان، وهو التوقيت الذي يشير إلى التجدد والحياة الجديدة، في هذا الموسم، يتوافد المصريون من شتى أرجاء البلاد إلى المدينة المقدسة، مرتدين الملابس البيضاء، حاملين القرابين، ومرددين التراتيل. الطقوس تبدأ من طيبة أو من مواضع أخرى على ضفاف النيل، ويتقدمها موكب جنائزي رمزي يجسد رحلة أوزير عبر النيل، حيث يتم إعادة تمثيل أسطورة موت أوزير، وتفاصيل رحلته إلى العالم الآخر، ثم بعثه من جديد، وهي طقوس ذات بعد درامي وروحي عميق. أبيدوس ومكانتها في العقيدة المصرية أبيدوس لم تكن مدينة عادية، بل كانت بمثابة بوابة للعالم الآخر، ومركزًا رئيسيًا لعبادة أوزير، وقد وُجد فيها عدد كبير من المعابد والمقابر الرمزية لأوزير. وكانت المدينة تمثل أملًا روحيًا لكل مصري قديم، إذ كان يُعتقد أن من يُدفن أو حتى يُحج إلى أبيدوس يُبعث مع أوزير. ولذلك، كان لكل مسؤول أو فرد من الطبقة العليا في الدولة مشهد مخصص على جدران مقبرته يُجسد فيه رحلة أبيدوس، كدليل على إيمانه وارتباطه بعقيدة البعث. أهمية المشهد في مقبرة سن نفر يمثل هذا المشهد أحد أبرز دلائل مدى تدين النخبة في مصر القديمة، ويعكس أهمية الطقوس الدينية في حياتهم. كما يُعد من المشاهد النادرة التي توثق بشكل دقيق تفاصيل الحج إلى أبيدوس، بداية من ارتداء الملابس البيضاء، ومرورًا بالاستعدادات، وانتهاءً بالوصول إلى معبد أوزير. وجود هذا المشهد في مقبرة سن نفر، أحد أعمدة الدولة في طيبة، يدل على ارتباطه القوي بالعقيدة الأوزيرية، وسعيه لضمان الخلود بجانب الإله. كما يبرز دور الزوجة في الطقوس، حيث تظهر "مريت" إلى جانبه، في تجسيدٍ لدور الأسرة في رحلة الخلود. رؤية فنية ودينية موحدة اقرأ أيضا | حكاية أثر| «سن نفر ومريت».. حكاية حب وجمال وطقوس مقدسة في مقبرة 96 بجبانة طيبة يتكامل في هذا المشهد البعدان الفني والديني، حيث تتجلى الدقة في تفاصيل الرسم، من تناسق الألوان، وانسيابية الخطوط، إلى دقة التعبير في ملامح الوجوه والحركة. أما البعد الديني، فهو حاضر بقوة من خلال تجسيد الرموز والإشارات الروحية، وتكرار ذكر الإله أوزير، ومركب "نشمت"، وكل العناصر التي تعبر عن الانتقال المقدس. مركب نشمت.. وسيلة الانتقال إلى العالم الآخر مركب "نشمت" ليس مجرد وسيلة نقل نيلية، بل يحمل دلالة أسطورية، فهو المركب الذي استخدمه أوزير في رحلته إلى العالم الآخر، ثم استخدمه كل من رغب في محاكاة هذه الرحلة. ولذلك، فظهور هذا المركب في المشهد يُعد رمزًا واضحًا لرغبة سن نفر في الاندماج الروحي الكامل في أسطورة البعث. الزوجة شريكة في الطقوس والخلاص ظهور "مريت" إلى جوار زوجها ليس مجرد دعم اجتماعي، بل شراكة روحية، إذ كانت الزوجة في العقيدة المصرية القديمة شريكة في الحياة والموت والبعث. وجودها إلى جانب سن نفر في هذا المشهد يُبرز دور المرأة كشريكة في الخلاص الديني. اقرأ أيضا |a href="https://akhbarelyom.com/news/newdetails/576958/1/%D8%B2%D8%A7%D9%87%D9%8A-%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B3-%D9%8A%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%A3%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%B1%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B0%D9%87%D8%A8-%D9%85%D9%86-%D8%AF%D8%A7%D8%AE%D9%84-%D9%85" title="زاهي حواس يكشف "أسرارعالم الذهب "من داخل مقبرة "سن نفر "في القرنة بالأقصر"زاهي حواس يكشف "أسرارعالم الذهب "من داخل مقبرة "سن نفر "في القرنة بالأقصر التأثير الاجتماعي للحج إلى أبيدوس لم تكن رحلة الحج إلى أبيدوس مقتصرة على النخبة فقط، بل شارك فيها العامة أيضًا، وتحوّلت إلى طقس قومي جامع، يُعبر عن وحدة المجتمع المصري وتعلقه بعقيدة البعث. لذلك، فإن تصوير هذا المشهد في مقبرة سن نفر، يُعد جزءًا من ثقافة عامة واسعة الانتشار. الدلالات المعاصرة للمشهد يمكن قراءة هذا المشهد اليوم كوثيقة بصرية شاهدة على عمق الإيمان المصري القديم، ومدى انغماسه في طقوس الحياة والموت، كما يعكس حب المصريين للرحلات الروحية والطقوس الجماعية، ويُظهر جانبًا من فلسفة الموت التي تقوم على الأمل في الخلود وليس الخوف من الفناء. اقرأ أيضا | حكاية أثر| «سن نفر ومريت».. حكاية حب وجمال وطقوس مقدسة في مقبرة 96 بجبانة طيبة