عزة سلطان «أعشق الخيانة» بإقرار واضح وجملة تقريرية يفتتح الكاتب المصرى عماد مدين روايته «اللوكاندة الحمراء» التى صدرت عن دار العين فى بداية 2025، وجاءت الرواية فى 190 صفحة من القطع المتوسط. يُثير عنوان الرواية كثيرًا من الأفكار والتوقعات حول المسار الموضوعى للعمل وإلى أين يقودنا العمل، هل هو الجريمة، أم الرعب، أم شىء آخر، فى اتفاق غير معلن بين المؤلف والقارئ أن هذا العمل يحمل تشويقًا من نوع خاص، بما يخلق توقعات لدى القارئ، فهل يحققها المؤلف؟ كما أن إقرار الخيانة من قبل البطل يرسم منذ اللحظات الأولى صورة غير نمطية للبطل، ليُعلن المؤلف منذ أول كلمة فى الرواية أن بطله ليس من نوعية الأبطال المعتادين، وأن هذا العمل لن يشهد انتصارًا للخير كما هو المعتاد فى الأدب وحتى السينما، بل أن اللعبة هنا مختلفة، حيث يأتى بطل اللوكاندة الحمراء من نوعية البطل الضد. التلويح بالتشويق يوحى عنوان «اللوكاندة الحمراء» بأن القارئ على موعد مع رواية تنتمى إلى عالم التشويق والإثارة، مستندة إلى عناصر الجريمة والغموض. فكلمة اللوكاندة، تضعنا فى إطار توقعات توارثناها عن حبكات السرد، فكلمة اللوكاندة توحى بوجود جريمة غامضة، وتحولات درامية مشحونة بالرعب، وربما حبكة بوليسية محكمة. لكن مع التوغل فى السرد، يتكشف للقارئ أن هذه الوعود لم تكن سوى طُعم سردى، إذ تتحرك الرواية فى اتجاه مختلف تمامًا، بعيدًا عن الإثارة التقليدية. وفى حقيقة الأمر فإن المؤلف يصنع لعبة خداع سردى، حيث يَلوح للقارئ بحبكة غامضة، ثم يقدّم له سردًا ذاتيًا يدور حول الخداع والاحتيال، ليس فقط داخل القصة، ولكن أيضًا على مستوى البناء الروائى نفسه، فالبطل يقود القارئ للتعرف على حكايته الشخصية التى تتمحور حول حياته فى الخارج، وعمليات النصب التى نفذها، وعودته إلى وطنه، وذكرياته، حتى الوقوع فى الحب لم ينتصر إلى الفعل الرومانسى، بقدر ما يؤجج حالة الانتظار لدى القارئ الذى يلهث، سعيًا خلف سر اللوكاندة الحمراء، ويبدو واضحًا أن المؤلف يعتمد على تلاعب ذكى بتوقعات القارئ، حيث يستخدم مفردات التشويق والتلميحات إلى احتمالية وقوع حدث كبير، لكنه بدلاً من ذلك يقدم سردًا اعترافيًا ذاتيًا، يسرد فيه البطل حياته، متنقلًا بين نجاحاته وخساراته. تكمن المفارقة فى أن الحبكة الفعلية ليست مبنية على تصاعد درامى تقليدى، بل على عملية خداع مزدوجة: البطل الذى يمارس الاحتيال، ثم يصبح بدوره ضحية له. حيث يترك عماد مدين القارئ متسائلًا: أين الجريمة، فحتى جريمة الاحتيال التى يتعرض لها البطل، تُحكى من وجهة نظر البطل، الذى يتجاوز فى السرد عن تفاصيل ضعفه، بينما يستفيض فى الاعلاء من ذكائه وتفوقه. البطل الضد يقدم مدين تجربة مختلفة على مستويات عديدة، حيث يغلب فى العوالم السردية أن تأتى شخصية البطل تمثل القيم الأخلاقية العليا، وتصبح صراعاته وتحدياته محاكاة لرحلة الإنسان نحو التوبة والتغيير نحو الأفضل. لكن فى رواية «اللوكاندة الحمراء» يخرج البطل عن هذه القاعدة ليكون بطلًا غير تقليدى، حيث ينحاز إلى الخيانة كقيمة أساسية فى حياته. هذا الخيار الجريء فى تقديم الشخصية يعكس تحولًا لافتًا فى مفاهيم البطولة فى الأدب المعاصر. فى رواية «واحة الغرب» للكاتب بهاء طاهر، كان البطل يقدّر الخيانة ويعتز بها أيضًا، لكنه لم يكن بطلًا وحيدًا داخل رواية بهاء طاهر، بينما جاء البطل فى رواية اللوكاندة الحمراء منتصرًا لفرديته، بل هو الصوت الوحيد داخل الحكاية. يقدم المؤلف من خلال هذا البطل تحديًا للمفاهيم المعتادة للبطل داخل عوالم الحكايات، ذاك البطل الذى يناضل من أجل الخير، لكن فى اللوكاندة الحمراء يضعنا مدين أمام شخصية تتسم بالانحراف الأخلاقى، متبنية الخيانة كوسيلة للتعايش مع ماضيها الملىء بالفقد. بطل الرواية يرفض القيم النبيلة وينكر المثل العليا، حيث تأتى السطور الأولى من الرواية على لسان البطل «أعشق الخيانة، أجد فيها الملاذ الآمن من ألم الفقد، ولطالما أدركت أن للخيانة مقدرة كامنة، تأتى على أقدام ناعمة كأقدام القط، وتسبق الآخرين فى الوصول والنجاح» (ص 7)، وهو لا يقدر الخيانة فقط بل يعتبرها اختيار القدر له «نظن أن الحياة تمنحنا خيارات عدة، ولكنها فى حقيقة الأمر تختار لنا، ورغم كل ما مررت به، أشعر بانتماء غير تقليدى إلى القدر» (ص 20). يقدم الكاتب تساؤلات حول طبيعة البطولة والأخلاق، وكيف يمكن أن تتحول القيم المألوفة إلى أدوات انكسار وهزائم متلاحقة فى حين، تصبح القيم الدنيا هى المنقذ. أحادية السرد يعتمد السرد بالكامل على صوت البطل الداخلى، ليكشف لنا عن عالمه النفسى المضطرب. إنه شخصية تعيش على هامش الأخلاق المجتمعية، مبررًا لنفسه الخداع والنصب بوصفهما أدوات للنجاح. بفضل هذا البناء السردى، تتجلى فى الرواية طبقات عميقة من التحليل النفسى، تجعل القارئ يتساءل: هل نحن أمام شخصية سيكوباتية، أم مجرد نتاج لبيئة قاسية تبرر سلوكه؟ فالبطل يعيش حالة مستمرة من التبرير النفسى لأفعاله، مما يتماشى مع مفهوم «التنافر المعرفي» عند ليون فستنجر. فهو يدرك أن ما يفعله غير أخلاقى، لكنه يعيد تشكيل الواقع وفق منطقه الداخلى ليجعل من الاحتيال طريقًا للنجاح، تمامًا كما يفعل المحتالون الذين يبررون سرقاتهم باعتبارها «أخذًا لما يستحقونه». كما أن البطل يبدو متأرجحًا بين صورتين لنفسه: الأولى واضحة ومعلنة وتأتى بشكل علنى وهو يقدم نفسه كفرد ذكى ومخطط بارع، والثانية خبيئة التفاصيل حين يسرد ما سبق من حياته فيبدو كضحية تم خداعها. هذا الازدواج فى الهوية يتوافق مع تحليل جاك لاكان حول «مرحلة المرآة»، حيث يكون الفرد غير قادر على التوفيق بين صورته عن نفسه وصورة الآخرين عنه. ونجد أن البطل يتميز بسمات تتوافق مع اضطراب الشخصية النرجسية، حيث يعتقد أنه متفوق على الآخرين، ويرى أن نجاحه المزعوم دليل على ذكائه الفائق. لكنه أيضًا يُظهر سمات سيكوباتية تتجلى فى عدم تعاطفه مع ضحاياه، وقدرته المميزة على التلاعب وجعل المواقف فى صالحه، وهذا ما نجده عندما تم فضح أمر احتياله فى البنك فى الدولة الخليجية التى كان يعمل بها، فاستطاع التلاعب بالجميع لصالحه، فهذا يدل على احساسه العميق بالاستحقاق، فهو حقه الطبيعى، وهو ما يعكس اضطرابًا فى مفهوم العدالة. حتى عندما يقع البطل كضحية للاحتيال، فإنه لا يلجأ إلى التفاصيل كما كان يفعل فى منذ بدء الأحداث وحتى ثلثى الرواية، وإن كان يسرد تفصيليا كيف وقع فى حب فتاة وهو ما يُظهر هشاشته النفسية الحقيقية. هنا يتجلى مبدأ «الإسقاط» فى علم النفس الفرويدى، فقد وجد فى الفتاة (ونس) ما يحتاج إليه من ونس يكسر به وحدته، كما إن احتياجها وضعفها عزز منطق البطولة والقوة لديه، ليقدم فعلًا ينتمى لمنظومة الأخلاق الاجتماعية المعروفة والتى كان ينكرها من قبل، لكنه حينما يجد الفرصة يحاول أن يرفع ألوية الخير والقيم. اعتماد السرد على ضمير المتكلم يفرض رؤية ذاتية تمامًا على القارئ، حيث يتم تقديم الشخصيات والأحداث وفقًا لتفسير البطل وحده، كل الشخصيات تُعرض من منظور البطل، ومن ثم فإنها تصبح مجرد انعكاسات لرؤيته الذاتية، مما يجعلها وظائف بنيوية داخل النص بدلاً من كونها شخصيات مستقلة، بالإضافة إلى أن هذه الشخصيات لا يتم إدراج تعديلات عليها فهى تأتى حسب تصورات البطل السابقة عن الشخصيات، حتى بعد اكتشافه أنه ضحية، وهذه الطريقة فى التعامل مع الشخصيات يكشف عن ثبات البنية الإدراكية داخل النص، حيث تبقى الشخصيات محكومة بالصورة الأولى التى كوّنها عنها، ومن ثم يظل البطل هو المصدر الوحيد للحقيقة داخل الحكاية، ولا يسمح بأى صوت سردى آخر بإعادة تأويل الأحداث. يستخدم النص أسلوبًا سرديًا دائريًا؛ حيث يبدأ البطل بتمجيد أفعاله الخادعة، ثم ينقلب الوضع عليه، لكنه يعود فى النهاية إلى موقع السيطرة، مما يؤكد على ثبات بنية القوة فى النص. تبرير المكان يكرس مدين لأهمية الإسكندرية على وجه الخصوص، فهى المكان الواضح والمسمى داخل روايته، فهو يرمز إلى كل مكان برمز دون التصريح باسمه كأن يقول الدولة الخليجية، والحى الراقى، والنادى لكن عندما يأتى ذكر الإسكندرية فإنها تُسمى، وهو تداخل بين ذات المؤلف والبطل، فالروائى الذى ينتمى إلى المدينة العريقة، يصنع وشائج بين بطله ومدينته، فتُرسم الإسكندرية فى «اللوكاندة الحمراء» كمدينة مشحونة بالرموز والارتباطات العاطفية. كل شارع وزاوية فيها يصبح مرآة تعكس ماضى البطل وحاضره، فيغدو التجول فيها رحلة عبر الزمن بقدر ما هو حركة داخل المكان. تحضر المدينة بأحيائها القديمة، بشوارعها التى تحتفظ بروائح البحر وموسيقى الحنين، فيُصبح المكان امتدادًا للذات، وليس مجرد إطار مكانى للأحداث. ويختار عماد مدين «اللوكاندة الحمراء» كعنوان لروايته ومكان سيحمل توقيع الحدث الأكبر أثرًا على البطل، فهذه اللوكاندة تحمل قيمة مضاعفة فى الرواية، فهى ليست فقط منزلًا أو موقعًا عاديًا فى المدينة، بل مكان له تاريخ سينمائى، إذ استُخدم كموقع لتصوير فيلم «رصيف نمرة 5»، ما يضفى عليه هالة من الأسطورة. ويصبح المكان هنا مساحة مزدوجة، تجمع بين الواقع والتخييل، بين الحكايات السينمائية والذكريات الشخصية، وهو ما نراه واضحًا فى «فى تلك اللحظة يضرب فريد شوقى باب القبو بقدمه فينكسر، يهجم على محمود المليجى الذى يختبئ خلف الصناديق، ويلقى عليه بالصناديق واحدًا تلو الآخر، يتجاوزها فريد شوقى فى خفة ويصل إلى المليجى، يمسكه من تلابيبه ويوسعه ضربًا» (ص 184) من شاهد فيلم رصيف نمرة خمسة يعرف أن هذا المشهد غير موجود، ولكنه إحلال للبطل بطاقة المكان فيرى فى نفسه فريد شوقى الذى يهزم العصابة متمثلة فى محمود المليجى، وهذه إشارة خفية إلى أن البطل قد أدرك الفخ الذى وقع فيه، وانتقل مجددًا لمركز القوة والسيطرة التى يفرضها البطل طيلة الأحداث. غير أن الإسكندرية مكان ينتمى للمؤلف أكثر من انتمائه للبطل، حتى اللوكاندة الحمراء لا تمتلك كل الثراء أو الخصوصية التى تجعلها مكانًا له دور البطولة داخل الرواية.