قبل نحو 7 سنوات، وبالتحديد فى مايو 2018، انسحب الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، خلال فترته الرئاسية الأولى (2016-2020) من اتفاق أيقونى مع إيران، أشرف عليه سلفه آنذاك باراك أوباما، وبموجبه التزمت طهران بتجميد نشاطها النووى وإخضاعه للتفتيش مقابل رفع العقوبات عنها، دون أن يكون للغرب أى مطالبات تتعلق بسياساتها الإقليمية. واختار ترامب فى ذلك الوقت سياسة العقوبات بوصفها أقصى درجات التشدد فى الضغوط على طهران. ومع تمسكه بهذه السياسة، فإن مشاهد جولات المفاوضات التى تجرى حاليا بين أمريكاوإيران كانت حتى وقت قريب ضربا من ضروب الخيال السياسي.. ومع ذلك، فلا ثوابت فى السياسة، لاسيما مع رجل غير متوقع مثل ترامب، والذى يرغب طوال الوقت فى تصوير نفسه على أنه رجل المعجزات السياسية، القادر على إبرام اتفاقات تعد مستحيلة. اقرأ أيضًا | استطلاع: ترامب يسجل تحسنا في شعبيته رغم استمرار الفجوة مع الرؤساء السابقين وانعقدت أمس الجولة الثانية من المفاوضات غير المباشرة بين إيرانوالولاياتالمتحدة.. ولأن المفاوضات معقدة إذ تشمل عدة قضايا فقد سبقتها مفاوضات مكوكية أجراها كل طرف مع حلفائه وسط مساعيه لتأمين نفسه أمام سوء نوايا الطرف الآخر. وتنعقد هذه الجولة بعد تقارير مسربة عن نوايا إسرائيل فى تنفيذ ضربات ضد منشآت نووية إيرانية، وقد رفضتها واشنطن واختارت طريق التفاوض دون الاكتفاء بمسألة العقوبات القصوى. فلماذا اختار ترامب هذا الطريق الآن؟ يبدو جليا لترامب أن العقوبات لم توقف أو تعرقل النشاط النووى الإيراني، بل كانت حافزا لتسريعه لدرجة أن التقديرات تشير إلى أن إيران على مشارف امتلاك سلاح نووي، إن لم تكن قد امتلكته بالفعل. ومن ثم فإن رفع العقوبات الآن عن إيران، كما هو معروض من الجانب الأمريكى خلال المفاوضات، له وظيفة فى غاية الأهمية. فترامب، الذى لا يريد الدخول فى حروب، يرغب فى تجنيب إدارته أن تشهد تاريخيا الإعلان «المحرج» من إيران بدخولها نادى الدول النووية، كما يريد تجنيب إدارته اتخاذ رد فعل على ذلك.. ومن ثم فالأيسر له أن يصل لاتفاق مع طهران تلتزم فيه بتحييد أو تجميد نشاطها النووى على الأقل طوال فترة إدارته.. مقابل الأموال. فلا رفع العقوبات أو استئنافها سيعطل نشاط إيران النووى.. لكن الاتفاق السياسى وحده هو ما سيؤمن الإدارة الأمريكية من هذه الخطوة. ومن ناحية أخرى، يسعى ترامب لعقد هذه الصفقة قبل آخر إبريل الجارى حين تنقضى المائة يوم الأولى من إدارته، وهى عتبة زمنية سياسية مهمة لأى إدارة، ولا يبدو حتى الآن تسجيله لأى إنجاز سوى سياسات متسرعة على الصعيد الاقتصادى ومرتبكة على الصعيد السياسي. ومن ناحية أخرى، فإن ترامب قد أضاف ملفا آخر للمفاوضات يتعلق بقطع أواصر إيران مع وكلائها الإقليميين، بوصفه يصب فى صالح رؤية ترامب للمنطقة، والتى عرضها مبعوثه «ستيف ويتكوف» تفصيلا خلال مقابلة تليفزيونية قبل نحو شهر. وهنا تبدو جليا مقاربتان مختلفتان لكل من الولاياتالمتحدة وإسرائيل فيما يتعلق بإيران. أما إسرائيل فتريد الحرب للتعامل مع التهديد الإيراني، وهى تعلم أنه لا يمكنها فعل ذلك من دون دعم أمريكى يتجاوز مدها بالسلاح.. وما حدث العام الماضى خير دليل، إذ أثبتت الضربات المتبادلة بين الجانبين أن إيران لا تخشى التصعيد مع إسرائيل، وأن بوسعها استدعاء الدعم الروسى القوى فى مقابل دعم أمريكا لإسرائيل. أما المقاربة الأمريكية فتقوم على تحييد البرنامج النووى الإيرانى وكذلك تحييد إيران على الصعيد الإقليمى بما يقطع الدعم السياسى والعسكرى عن قوى تقاتل إسرائيل فى أكثر من جبهة. لكن المفاوضات هذه المرة تجرى وسط أوضاع سياسية معقدة للولايات المتحدة.. فإذا فشلت المفاوضات سيكون على أمريكا العودة إلى سياسة العقوبات القصوى، التى لن تنجح دون المشاركة الأوروبية. لكن هذه المرة، لن تتضامن معها أوروبا غالبا، وذلك لسببين، أولهما: أن إيران وأوروبا كانتا قد بدأتا الحوار بالفعل قبل أن تعقد المفاوضات بين طهرانوواشنطن، ولدى الرئيس الإيرانى بزشكيان قنوات اتصال دبلوماسى بالفعل مع عدد من قادة أوروبا. أما السبب الآخر فهو أن أوروبا والولاياتالمتحدة على خلاف بشأن سياسة حرب أوكرانيا، ويعتقد الأوروبيون أن أمريكا تتخلى عنهم تماما وتتركهم وحدهم فى مواجهة روسيا، بعد أن استقطبتهم لجانبها وأقنعتهم بتطبيق عقوبات قاسية على موسكو. وإن كان تجنب إيران للإعلان بامتلاك سلاح نووى فى عهد ترامب وتحييد إيران عن التدخلات الإقليمية وقطع أطرافها بوكلائها فى المنطقة هو أسهل ما تقدمه طهران مقابل رفع العقوبات عنها.. فهو أقل ما تريده إسرائيل، التى ستفعل أى شيء وكل شيء لإقناع أمريكا أو توريطها فى ضربة ضد المنشآت النووية الإيرانية، وسيكون على أمريكا التصدى لطموحات إسرائيل هذه، والأثر السلبى الذى سيحدثه ذلك على علاقات البلدين.