حينما اختارت بريطانيا أن تنفصل عن الاتحاد الأوروبي، كانت تراهن على فكرة استعادة سيادتها التجارية وفتح أبواب العالم أمام "بريطانيا العالمية". لكنها لم تكن تتوقع أن أول العواصف ستأتي من جهة الحليف الأقرب الولاياتالمتحدة، حيث باتت الرسوم الجمركية الأمريكية سلاحًا سياسيًا بيد واشنطن، لا أداةً اقتصادية فحسب. أشارت صحيفة «بوليتيكو» الأمريكية، إلى أن الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، المعروف بميله إلى التفاوض عبر الأزمات، قرر أن يلقي بثقله الجمركي على قطاع السيارات البريطاني، ليدفع بلندن إلى زاوية الاختيار الصعب... إمّا الرضوخ لصفقات غير متوازنة، أو البحث عن تحالفات جديدة تُعيد صياغة موقعها في الخريطة الاقتصادية الدولية. هذا التصعيد لم يحدث في فراغ؛ فمنذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، تحاول بريطانيا أن تعيد اكتشاف نفسها وسط شبكة معقدة من المصالح المتضاربة. والآن وسط تقلبات اقتصادية عالمية وحرب تجارية تهدد استقرار الأسواق وجدت حكومة حزب العمال نفسها مضطرة لطرق أبواب الهند وآسيا وأوروبا مجددًا، في سباق مع الزمن لتأمين اتفاقات تنقذ الاقتصاد البريطاني من العزلة. لكن اللعبة اليوم أصعب مما كانت عليه قبل سنوات؛ إذ لم يعد يكفي الحديث عن "العلاقة الخاصة" ولا التعويل على "الإرث الاستعماري"، فالمصالح وحدها هي من تحكم، ولندن بحاجة إلى تنازلات لم تعتد عليها، وربما قرارات غير شعبية ستختبر مدى صلابة قيادتها الجديدة. اقرأ أيضًا: الاتحاد الأوروبي يسعى لتعزيز التعاون مع الإيكواس في قضايا الأمن والاستقرار الإقليمي بريطانيا تُراهن على تقليص الحواجز وتسريع الصفقات أكد رئيس وزراء بريطانيا، كير ستارمر أن بلاده ماضية في العمل مع شركائها الرئيسيين حول العالم لتقليل الحواجز التجارية وتعزيز مبدأ التجارة الحرة والمفتوحة إرث لطالما ارتبط بتاريخ بريطانيا ولن تتخلى عنه الآن، كما قال. ويشمل ذلك تسريع إبرام اتفاقيات تجارية جديدة مع دول العالم، في الوقت الذي تشهد فيه الساحة الدولية حالة من عدم الاستقرار بسبب الحروب التجارية. قائمة أولويات بريطانية.. «الهند والخليج وأوروبا» تتصدر محادثات التجارة الحرة مع الهند ومجلس التعاون الخليجي قائمة الأولويات البريطانية، في حين تسير المفاوضات قدمًا مع سويسرا وكوريا الجنوبية وإسرائيل لتحديث اتفاقيات قائمة. كما تحرز لندن تقدمًا ملحوظًا في إعادة بناء علاقاتها مع الاتحاد الأوروبي بعد فترة مضطربة من "بريكست"، استعدادًا لقمة مهمة بين الجانبين في مايو. قال وزير التجارة البريطاني، جوناثان رينولدز في وقت سابق من هذا الأسبوع إن لندن استغلت توتراتها مع الولاياتالمتحدة لدفع ملفاتها التفاوضية الأخرى إلى الأمام، وهو تحول كبير عن خطاب حزب العمال قبل الانتخابات الذي كان يتبنى موقفًا أبسط تجاه اتفاقيات التجارة الحرة. بروكسل تعود إلى طاولة المحادثات دفعت الحرب التجارية المتصاعدة بقيادة الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، إلى جانب ابتعاده عن ملف أمن أوروبا، بريطانيا إلى مراجعة علاقتها مع الاتحاد الأوروبي، وهو ما أعطى زخمًا إضافيًا لمحادثات "إعادة الضبط" الجارية بين الطرفين. أكدت وزيرة المالية البريطانية، راشيل ريفز، أن المشهد الدولي المتغير يجعل من تعزيز العلاقة مع بروكسل "ضرورة ملحة"، خاصة بعد تزايد شكاوى الشركات البريطانية من استبعادها من الأسواق الأوروبية. 19 مايو... اختبار العلاقة عبر القنوات في 19 مايو المقبل، ستتجه الأنظار إلى لندن حيث يستضيف زعماء الاتحاد الأوروبي قمة رئيسية تناقش مستقبل العلاقات بين الطرفين. ومن أبرز البنود المطروحة اتفاقية أمنية جديدة بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، لا تزال في طور التشكل، لكنها قد تفتح أبوابًا لاستثمارات دفاعية مشتركة وتعزيز التعاون الصناعي العسكري. اتفاق بيطري وتسهيلات للمواهب من الملفات الحيوية على الطاولة كذلك اتفاقية بيطرية تهدف لتخفيف القيود الحدودية من خلال توحيد معايير صحة الحيوان والنبات، وهي فكرة تلاقي ترحيبًا حذرًا من بروكسل، بشرط التزام لندن بمعايير الاتحاد الأوروبي. في ذات الوقت، يسعى رئيس وزراء بريطانيا، كير ستارمر، إلى تحسين تجارة الخدمات، خاصة من خلال الاعتراف المتبادل بالمؤهلات المهنية، وتسهيل عمل الفنانين البريطانيين في جولاتهم داخل الاتحاد الأوروبي. رغم الحراك النشط، تبقى الأمور معقدة بفعل الخطوط الحمراء التي وضعها حزب العمال، حيث يستبعد الانضمام مُجددًا للسوق الموحدة أو الاتحاد الجمركي أو قبول حرية الحركة، ما يجعل المفاوضات معقدة وشائكة. هاجس أيرلندا الشمالية يضغط على لندن تفاقم الحرب التجارية مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب يضيف بعدًا آخر من الضغط، حيث ستُفرض رسوم انتقامية من الاتحاد الأوروبي على الولاياتالمتحدة في أيرلندا الشمالية بموجب الترتيبات المعقدة لما بعد بريكست. واعتبر وزير شؤون أيرلندا الشمالية هيلاري بين أن التوصل إلى اتفاق تجاري أفضل مع بروكسل يمكن أن يكون مخرجًا لهذه الأزمة. الهند.. شريك إستراتيجي وسط الحذر تواصل لندن أيضًا المحادثات المكثفة مع الهند، هذا الأسبوع، زارت وزيرة المالية الهندية نيرمالا سيتارامان لندن، وأجرت محادثات مع راشيل ريفز وجوناثان رينولدز، ليس فقط بشأن التجارة الحرة، بل أيضًا لعقد اتفاقية استثمار ثنائية. وفي تصريحات إعلامية بعد اللقاءات، تحدثت سيتارامان عن "أجواء إيجابية وحماس متبادل" لإنجاز الاتفاق في أقرب وقت ممكن، لكنها أوضحت كذلك أن الهند لن تتسرع في إبرام صفقة بسبب ضغوط الحرب التجارية مع ترامب، رغم إحراز تقدم كبير في بعض المسائل. «الهندوبريطانيا».. طموح اقتصادي تعرقله العوائق صرّح شاشي ثارور، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الهندي، لصحيفة «بوليتيكو» الأمريكية، أن مسألة الرسوم الجمركية الأمريكية دفعت ملف الاتفاق التجاري مع بريطانيا إلى دائرة الأولويات السياسية. وأوضح: «نحن بحاجة جميعًا إلى أدوات تحمينا من تقلبات التجارة العالمية التي باتت فجأةً في صدارة اهتمامات الشعوب». لكن ثارور، أشار في المقابل إلى استمرار وجود "عقبات" تعرقل المفاوضات، تتعلق بتأشيرات التنقل التجاري، وخطط بريطانيا لفرض ضرائب بيئية على واردات الصلب الهندي والمنتجات الكربونية، إضافة إلى قضية الملكية الفكرية. ورغم تصريحات بريطانية متفائلة هذا الأسبوع لصحيفة «الجارديان» البريطانية، تفيد بحل مشاكل التأشيرات، أكد مصدر مطّلع في المفاوضات أن "هذا غير دقيق تمامًا". ويضيف ثارور: «الهند ترغب في زيادة حصص مهنييها، خصوصًا في مجالات مثل تكنولوجيا المعلومات والرعاية الصحية، لكن المخاوف الداخلية في بريطانيا حيال دخول الأجانب تبقى عائقًا، وإذا لم تتمكن لندن من تقديم تنازلات بهذا الخصوص، فماذا تبقى لها لتقدمه؟» وتابع: «في حال نجح الجانبان في توقيع الاتفاق، يمكن أن يتضاعف حجم التبادل التجاري الحالي البالغ 50 مليار دولار سنويًا، لكن هذا يتطلب مرونة كبيرة من الطرفين». ورغم إخفاق المفاوضات في عهد الحكومة المحافظة السابقة، أعادت زيارة رينولدز إلى دلهي في فبراير الماضي الأمل من جديد، بعد تخطي المخاوف المتعلقة بالهجرة وفرص الشركات الأجنبية. وقال مسؤول تجاري بريطاني مطّلع: «شهدت المحادثات تحولًا جذريًا منذ تلك الزيارة، هناك شعور أن الهند أصبحت حريصة أكثر من أي وقت مضى على إتمام الصفقة، خاصة في ظل التحديات الجيوسياسية ورغبة الهند في تحقيق نمو تجاري سريع». مفاوضات مع الخليج.. بين الفرص والعقبات في موازاة ذلك، تشهد العلاقة التجارية بين بريطانيا ودول مجلس التعاون الخليجي (البحرين، الكويت، عمان، قطر، السعودية، الإمارات) حالة من الحراك المتجدد والمفاوضات الممتدة، في ظل محادثات جارية بشأن اتفاقية تجارة حرة، وفقًا لصحيفة «بوليتيكو». وعلى الرغم من أن عدد جولات التفاوض لم يُعلن بشكل رسمي، استعادت المحادثات زخمها منذ أن أعاد حزب العمال إطلاقها في سبتمبر 2024، حيث استقبلت لندن وفدًا خليجيًا في يناير، تلاه اجتماع في الرياض بين كبير المفاوضين البريطانيين ونظرائه في فبراير. ومع تقدم اللقاءات، تحول التركيز في الآونة الأخيرة من مسار اتفاقية التجارة إلى استكشاف فرص استثمارية مباشرة يمكن للطرفين البناء عليها مستقبلًا. ومع ذلك، بدا أن العودة لفكرة الاتفاقية الشاملة أصبحت ممكنة بعد رفع الرسوم الجمركية الأمريكية، وكمؤشر على جدية بريطانيا، أجرى رئيس الوزراء كير ستارمر مكالمة مع ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، أكد خلالها التزامه بالعمل مع الشركاء الدوليين للحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي، واتفق الطرفان على البناء على التقدم المحرز حتى الآن في ملف اتفاقية التجارة الحرة. وأوضح مصدر مطّلع لبوليتيكو: «رغبة بريطانيا في صفقة مع مجلس التعاون كانت موجودة قبل عودة ترامب للبيت الأبيض، لكنها أصبحت الآن أولوية إضافية،، المملكة المتحدة بحاجة ماسة لهذه الاتفاقية، وكلما تم توقيعها سريعًا، كان ذلك أفضل». كندا تعود إلى الواجهة.. هل تعود المفاوضات؟ في ظل هذه التحركات، أبدت بريطانيا رغبة في إعادة فتح مفاوضات التجارة مع كندا، التي تضررت بشدة من الرسوم الجمركية الأمريكية التي فرضتها إدارة ترامب. وكان رئيس الوزراء الكندي السابق، جاستن ترودو، هو من أعاد فكرة إحياء المحادثات التي انهارت سابقًا بسبب خلافات تتعلق بدخول لحوم البقر المعالجة بالهرمونات إلى السوق البريطانية. وفي تصريح سابق لصحيفة «بوليتيكو»، قال المفوض السامي الكندي لدى المملكة المتحدة رالف جودال: «لدينا فرصة ذهبية وسبب قوي للعمل بجدية على تنويع تجارتنا، في ظل التعريفات الأمريكية». ودعا جودال بريطانيا إلى العودة لطاولة المفاوضات بعد انسحابها في يناير الماضي، قائلاً: «من المفيد أن نحاول مجددًا بأسرع وقت ممكن، وإذا أمكننا إضافة المزيد من البنود، فسيكون ذلك ممتازًا». ورغم أن بريطانيا تدرس الاقتراح الكندي، إلا أنها لم تعلن موقفًا رسميًا بعد. اللعب على كل الجبهات.. فماذا عن أمريكا؟ في الوقت الذي تسعى فيه بريطانيا لتقوية علاقاتها التجارية مع دول عدة، لا تزال تطمح لإبرام اتفاق مع الولاياتالمتحدة. وأكد مسؤول حكومي بريطاني مطّلع أن المفاوضات تتركز حاليًا حول الرسوم الجمركية الأمريكية المرتفعة، وخاصة تلك التي تبلغ 25% على الصلب والسيارات، بحسب «بوليتيكو». لكن، مع السياسة التجارية المتقلبة التي يتبعها الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب مؤخرًا، ترى بريطانيا أنه من غير الحكيم أن تعلّق آمالها بالكامل على هذه الصفقة. وفي خطوة مفاجئة، أعلن ترامب الليلة الماضية عن تجميد مؤقت لمدة 90 يومًا ل الرسوم الجمركية المتبادلة، باستثناء الصين، الأمر الذي أربك المفاوضين الدوليين الذين باتوا في حيرة حيال ما قد يحدث لاحقًا. وفي ظل هذه الأجواء المضطربة، يبدو أن الخيار الأنسب أمام بريطانيا حاليًا هو تنويع تحركاتها التجارية واللعب على كل الجبهات بدلًا من انتظار موقف واحد غير مضمون