«أطلب من ابنى أن يقاوم فضوله ويزيد سرعة السيارة ليتجاوز حافة المشاجرة، فلا عاصمَ اليوم من حجرٍ طائش أو جسد هائمٍ يرتطم بنا» على حافة المشاجرة الجمعة: زحام مفاجئ يسلب الطريق انسيابيته. قديمًا كنتُ أشغل بالى بطرح سيناريوهات افتراضية، أواجه بها رتابة بطءٍ يعطلنى عن موعد مهم أو عادى، رغم أننى مسئول دائمًا عن التأخير، لأننى فنان فى عدم ضبط إيقاع الوقت. أبدأ عادةً الاستعداد لأى موعد قبل دقائق معدودة من التوقيت المحدد، ثم ألقى باللوم على «شماعات» متنوعة أستخرجها من خزانة حججى التى لا تنتهى! منذ فترة بدأتُ استبعاد السيناريوهات، أولًا لأنها فقدتْ قدرتها على مواجهة التكدسات المستمرة، وثانيًا لأن الاحتمالات أصبحتْ منزوعة الصلاحية، بعد أن اكتشفتُ أن الطرق تعانى من عُسر هضم المركبات، سرعان ما يتحوّل إلى تدفق مؤقت لحركة المرور، دون أن أقابل سببًا منطقيًا لنشوء التكدس وارتقائه ثم انتهائه فى لمْح البصر، قبل التعثر فى زحام جديد. سيارتان متوقفتان وحشدٌ بشريٌ متداخل. يستخرج أحدهم عصا غليظة لا أعرف سبب احتفاظه بها فى سيارته، غير أننى لم أعد أشعر بالدهشة. يرفع الشاب يده بالعصا ويُسددها تجاه آخر يسبّه بصوت عالٍ. أطلب من ابنى أن يقاوم فضوله ويزيد سرعة السيارة ليتجاوز حافة المشاجرة، فلا عاصمَ اليوم من حجرٍ طائش أو جسد هائم يرتطم بنا، ويجرفنا إلى أعماق المهزلة. على غير العادة يستجيب ويبتعد بنا، بعد أن يرفع صوت أغنية يسمعها، كى يحمى سمْع والدته من عبارات قد تخدش حياء أذنيها. يتصاعد صوت عمرو دياب، الذى يُعتبر منطقة استماع محايدة، تفصل بين شغفى بالطرب القديم، وذائقة حداثية مضطربة يتمتع بها أبناء الجيل الجديد. إنها منطقة عازلة تفض اشتباكات معتادة بين رغباتنا السمعية المتناقضة! مصداقية خادعة! لم أشهد المحطة النهائية التى استقرت فيها العصا. ربما تكون قد أصابت رأس ضحيتها، أو باتتْ من نصيب شخص سيئ الحظ حاول فض المشاجرة. الاحتمالات كثيرة سوف تحسمها أية كاميرا مراقبة قريبة، بعد أن يُصبح الفيديو مُتداولًا بغزارة، إذا تحول الاشتباك إلى جريمة تجتذب اهتمام الرأى العام. وقتها فقط سأكتشف أن أقدم سلاح أبيض فى تاريخ البشرية قد سحق جمجمة أحدهم، وتفجّرت الدماء لتزيد عدد المشاهدات بدرجة مبالغ فيها، فالدم يثير الكثيرين مثل قطعة قماش حمراء تصيب ثيران المصارعة بالهياج، حسب معلومات خاطئة اعتدنا تداولها، وننسى أن الثور لا يُميّز الألوان عن بعضها، ولا يُدرك الفرق بين الأحمر والأبيض، بقدر ما تستثيره حركات المصارع، وتُحفزه على بدء هجماته المُرتدة. تدفع صورة العصا الثور خارج حيز أفكارى، وأفترض أنها هبطت سالمة على رأس ضحيتها! أتوقع رؤية المشهد كاملًا فى فيديو خلال ساعات. وقتها سنندفع جميعًا عبر منشورات منصات التواصل، ننتقد الانحياز للعنف، والوحشية التى التهمت آدمية الجانى، معتمدين على لقطة وحيدة وثّقتها الكاميرا، بينما هناك لقطات أخرى قد تكشف دوافع تجعلنا نلتمس العُذر للمتهم. ربما فوجئ مثلًا بأن الضحية يستعد لطعنه ب «مطواة»، أو وجّه له شتائم بالغة القبح استهدفت شرف أحد أفراد عائلته! هنا تتحول العصا الشرسة إلى سلاح للدفاع عن النفس أو العِرض، ويصبح الجانى شبيهًا بثور استفزته حركات المصارع وقماشته ضبابية اللون. ما سبق ليس دفاعًا عن العنف، فهو مرفوض فى كل الأحوال، غير أنه محاولة لإنصاف منطقٍ يحتضر، نعتمد فيه على لحظات وثّقتها الكاميرا، ومنحها «التريند» مصداقية خادعة. ليطرح السؤال نفسه: لماذا صرنا أسْرى الأحكام المُطلقة؟ فى بعض الأحوال يحصل القاتل على حُكم بالبراءة، رغم أنه ارتكب جريمته أمام كثيرين، لأن الدوافع أثبتت أن فِعلته كانت مجرد ردّ فعل. ليتنا نتعلم كيفية التعامل مع المشهد كاملًا، بدلًا من الانحياز إلى اللقطات المجتزأة. شوارع أنهكها الصخب! الأحد: المدينة نفسها، غير أن تنوع مفرداتها يمنحنى زخمًا من الأحاسيس. تظل الطاقة الإيجابية مفردات مخادعة يروجها أنصار التنمية البشرية، إلى أن تنبت بداخلنا دون أية محاولة لاستخراجها بالإلحاح. تودّع السيارة شارع عبد الخالق ثروت وتشق طريقها بالقوة الجبرية نحو كوبرى الأزهر. الممر المعدنى معبرٌ بين عالمين تاريخيين أرهقهما زحام الحاضر. ينتابنى الجذل مع صوت عفاف راضى. ها هى الإذاعات تستشرف لحظات سعادتى، فتمنحنى ما يزيد من جاذبية التفاصيل المحيطة. «ردّوا السلام وما تطلعوش فى العالى يا سلام.. ردّوا السلام ألّا السلام ده غالى». ألقى السلام على منشآت أنهكها الصخب، ولا أنتظر منها إجابة، لا لأن الجماد غير قادر على البوح، بل لأننى عابر سبيل لا يلفت انتباه أحد، وحدها تظل المطربة الكبيرة تستجدى ردودًا لا تأتى: «ردوا السلام وكفاية غلّبتوني.. ردوا السلام وكفاية توّهْتوني.. واللى شافونى تاهوا لما شافونى.. قالوا يا عينى على سهر الليالى». أجد نفسى محاصرًا بين طاقتى شجن: مشاعر مرتبطة بأماكن تختزن رصيدًا كبيرًا من ذكرياتى، وكلمات أغنية حزينة لعاشقة أرهقها الهجر. على غير العادة لا أستسلم لأحزان يفرضها اللحن الملبّد بالأسى، ربما لأننى على موعد مُتخم بالبهجة، بعد فراق دام أكثر من رُبع قرن! تحت قبة السلطان الباكى أضطر لمغادرة السيارة وعدم استكمال الأغنية. أتأمل جدران مجموعة الغورى العملاقة، أنشأها سلطان انفجر بالبكاء عندما اختاره أمراء المماليك ليتولى الحُكم، حاول الهروب من مصير سابقيه لكن الضغوط كانت أقوى منه، وبعد أعوام سقط فى موقعة مرج دابق شهيدًا لخيانة أمير كبير اسمه خاير بك. خلّدت ذاكرة المصريين الاثنين فأطلقوا على المنطقة المحيطة بالمنشأة اسم الغورية، نسبة للسلطان قنصوة الغورى، بينما وصموا الأمير بمُسمى ظلّ يلاحقه حتى رحيله هو «خاين بك»! مرورى على مجموعة الغورى لم ينقطع، غير أن آخر دخول إلى القبة حدث قبل ثلاثين عامًا. الغريب أن زيارتى لها هذه الليلة تجمع ثلاثة أزمنة فى وقت واحد: المكان استحضر الماضى، والحاضر تجسّد فى ثلاثة شباب صغار، تدور أعمارهم حول العشرين بفروق توقيت بسيطة، رسمت كلماتهم ملامح مستقبلٍ وردى النسمات، يُثبت أن القراءة لم تتحول إلى فعلٍ مُنقرض. أشعر بالسعادة عندما تُثبت لى الظروف أن الثقافة لا تزال قادرة على الحشد، هذا اليقين الذى يتجدد كل معرض كتاب، وتأتى فعاليات متقطعة لتؤكده، المهم أن تجد من يعمل من أجلها بإخلاص، سواء من المؤسسات الرسمية أو الكيانات الخاصة. تحت القبة، فاجأتنى كثافة الحاضرين فى ندوتين متتاليتين، واتّسمت الندوة الثانية التى تابعتُها بمذاق خاص، عبر استضافتها الفرسان الثلاثة: مودة، إياد، وعبدالله، الذين استثمروا سطوة «السوشيال ميديا» فى دعم الكتب، بالترويج لها فى «تيك توك» و«إنستجرام»، وأنشأوا مع غيرهم ممرات آمنة بين الكتاب الورقى وقراءٍ ينتابنا القلق من انقراضهم، أمام اجتياح وسائط أخرى أكثر قدرة على اقتناص الأجيال الجديدة، بتفاهات صارت محور اهتمام الكثيرين. تابعتُ الندوة التى نظمها ملتقى القاهرة الأدبى من مقاعد الجمهور، غير أن الإعلامية الصديقة تغريد الصبان مديرة الأمسية، دعتْنى لتقديم مداخلة، واقتنصتُ الفرصة لإجراء حوار سريع مع شباب تفصلنى عنهم أعوام كثيرة، لكن الاهتمامات المشتركة تذيب فوارق الأعمار. ربما تكون الهموم عاملًا مشتركًا يجمع بين سكان الكوكب فى عالم مضطرب، وقد تكون إرهاصات التحولات الكبرى مصدر قلق عميق، لكن فى نهاية كل نفق بصيص ضوء، ينبع من عيون تتألق بالأمل وترفض الانكسار. بعيدًا عن البث الإذاعى تستحضر ذاكرتى صوت عفاف راضى من جديد: «الناس هنا هنا حلوين.. عايشين على السماح.. على السماح عايشين.. ألوانهم الجميلة مفيهاش لون الجراح». أغادر المكان وأنا أتنفس هواء أكثر نقاءً. أعترف أننى لستُ مفرطًا فى التفاؤل عادة، لكنها الظروف تفرض علىّ أحيانا أن أتحلى بالأمل!