على مدى سنوات طويلة من معايشة السياسة الخارجية المصرية، كنت أستمع إلى مقولة باتت تمثل ركنا أساسيا من ثوابت الخطاب السياسى المصرى، وهى أن «أمن منطقة الخليج جزء لا يتجزأ من أمن مصر القومى». تكررت تلك المقولة بأساليب متعددة وفى مراحل متباينة، وظلت العلاقة بين مصر ودول الخليج فى غالب الأحيان تجسيدا عمليا لتلك المقولة، والتى أستطيع بصدق القول إن تبديل طرفيها لا يغير معناها، فأمن مصر أيضا جزء لا يتجزأ من أمن منطقة الخليج. هذا المنظور العقلانى والرؤية العميقة لطبيعة العلاقات التاريخية والممتدة بين مصر ودول مجلس التعاون الخليجى، مثلت على مدى سنوات طويلة بوصلة واضحة لصياغة المواقف وتوفير أساس صلب من التقارب والتنسيق المشترك، ليس فقط على المستوى الثنائى، ولكن أيضا إزاء ملفات دقيقة ومتشابكة باتت جزءا من الميراث السياسى لمنطقتنا الشرق أوسطية. ولا أحتاج لسرد كثير من اللحظات التاريخية التى صاغت تقاربا مصريا خليجيا سواء على مستوى السياسات الرسمية أو التقارب الشعبى، فموقف مصر دائما كان منحازا للحفاظ على أمن واستقرار منطقة الخليج، وأقامت القاهرةوالعواصم الخليجية الست صرحا شامخا من الشراكات الناجحة فى هذا السياق، كما كان لمعظم العواصم الخليجية دور حيوى فى مساندة مصر فى كثير من المواقف، ولعل الدعم الخليجى لإرادة الشعب المصرى بعد ثورة 30 يونيو 2013 كان مثالا لإدراك غالبية دول الخليج لأهمية أمن واستقرار مصر. كما كان لمشاركة الملايين من أبناء الشعب المصرى على مدى العقود الخمسة الماضية فى تجربة التحديث والبناء بدول الخليج جسر قوى لتواصل شعبى وإنسانى أسهم فى اتساق المواقف، وتعزيز الحرص المشترك على أمن واستقرار الطرفين، ولا يزال حضور العديد من أبناء الجالية المصرية فى دول الخليج صفحة ناصعة لتعاون وعلاقة شعبية وطيدة تسهم فى استمرار الود الشعبى والتفاهم الرسمى. وعلى مدى السنوات الأخيرة شهدت الشراكة المصرية والخليجية تطورا لافتا، وتحلت بواقعية وعقلانية سياسية أسهمت فى تحقيق تقارب ونمو مطّرد فى العلاقات المصرية - الخليجية، مع تغليب منطق «المصالح المشتركة»، والتعايش مع مبدأ «المصالح غير المتطابقة»، فنحن فى النهاية إزاء 6 عواصم خليجية لكل منها رؤيتها وأولوياتها وشبكة علاقاتها ومصالحها، وإدراك ذلك والتعامل معه بواقعية وتقدير يسهم فى تعزيز الفهم والتنسيق المتبادل، والعمل على تعزيز المشتركات فى رؤية القاهرةوالعواصم الخليجية، وكذلك إدارة التباينات الطبيعية والمتوقعة فى بعض الملفات برشد واحترافية سياسية، باتت تمثل نموذجا ملهما فى إدارة العلاقات العربية - العربية. ولعل المشتركات بين مصر ودول الخليج أكثر وأكبر من أن نحصيها فى سطور معدودة، لكن استعراض أبرزها يمكن أن يسهم فى توضيح أفضل للصورة، فمصر ودول الخليج تتشارك مجموعة من الثوابت المركزية يأتى فى مقدمتها: - الحرص على الاستقرار الأمنى والسياسى، سواء على المستوى الثنائى، أو على المستوى الإقليمى، فى مواجهة مهددات تتجسد أحيانا فى سياسات بعض الدول الإقليمية غير العربية، أو فى مواجهة مجموعة من الفاعلين الأقل من الدولة والتى تتمثل فى تنظيمات متطرفة سياسيا أو فكريا. - تعزيز نهج الإصلاح المتدرج والمتأنى، بعيدا عن الإدارة الأيديولوجية للسياسة الخارجية. - اعتماد سياسة هادئة للتعامل مع تباينات وجهات النظر المعتادة فى ملفات العلاقات الدولية. - ممارسة دبلوماسية إيجابية تجاه الأزمات ذات الأولوية، سواء على المستوى الإقليمى أو الدولى. - التوافق على ضرورة بناء سياسة توافقية أو على الأقل منسقة إقليميا فى التعامل مع أبرز القوى الفاعلة فى النظام الدولى، سواء الموجود بالفعل فى المنطقة، أو فتح أفق لعلاقات أكثر متانة وتنوعا مع القوى الصاعدة فى المنظومة الدولية. والحقيقة أن السياسة العقلانية التى ألزمت الدولة المصرية نفسها بها خلال العقد الماضى، والارتكاز على جملة من الثوابت الوطنية والقومية والأخلاقية فى إدارة السياسة الخارجية المصرية وبناء شراكات قوية وواضحة مع مختلف القوى الإقليمية والدولية، أسهما بقوة فى تعزيز رصيد الثقة فى السياسة المصرية، كما ساعدا بشكل لافت فى الإبقاء على قنوات اتصال فعالة سواء فى إدارة التوافقات والترتيبات المشتركة إزاء قضايا المنطقة، أو فى تقريب وجهات النظر عند وجود تباينات فى الرؤية أو المصالح. وليس أدل على نجاح الرؤية والسياسة المصرية الحصيفة فى هذا الصدد من عودة كثير من القوى الإقليمية العربية وغير العربية لاستعادة علاقاتها الطبيعية مع مصر، وتجاوز فترات «الجفاء السياسى»، خاصة فى ظل الاضطراب والارتباك الذى عانته المنطقة فى أعقاب «زلزال» 2011 وتوابعه، التى لا يزال بعضها متواصلا فى العديد من دول المنطقة. نجحت السياسة المصرية فى الحفاظ على الأرضية القوية التى تجمعها مع معظم دول المنطقة والعالم، وأضافت مزيدا من العمل والشراكات الناجحة القائمة على الندية والاحترام المتبادل، الأمر الذى أسهم فى تغيير رؤية العديد من الأطراف الإقليمية وإقناعها بأن الاستثمار فى الأمن الإقليمى والتعاون من أجل تهيئة أجواء مستقرة تسهم فى إنطلاق مشروعات واعدة للتنمية المستدامة، وتعزيز تطلعات الشعوب فى مستقبل أفضل هو الخيار المناسب والأصلح للجميع، وأن دعم كيانات مناوئة لفكرة «الدولة الوطنية» لا يسهم فى التغيير الذى تطمح إليه الشعوب، بل على العكس يؤدى إلى زعزعة الاستقرار واستنزاف مقدرات الأوطان، والخاسر الأكبر والأول دائما هو تلك الشعوب. ومن هذا المنطلق استطاعت مصر إدارة جملة من الخطوات الإيجابية لزيادة مساحة التعاون الاستراتيجى مع دول مجلس التعاون الخليجى، فالتعاون المصرى الخليجى يحتل أولوية لافتة على أجندة صانع القرار المصرى، وتحتل اللقاءات المصرية الخليجية مرتبة متقدمة فى ترتيب الاجتماعات الرسمية سواء على المستوى الرئاسى أو الوزارى، وهو ما يعكس حرص الدولة المصرية على استمرار التشاور والتنسيق مع الأشقاء فى منطقة الخليج على المستويات كافة. كما دشنت مصر ودول الخليج الست للمرة الأولى فى تاريخ العلاقات آلية للتشاور السياسى بشكل مؤسسى، وكان ذلك فى 12 ديسمبر 2021، ومثّل ذلك الحوار صفحة جديدة من التعاون البناء بين الجانبين، وبداية لنهج مثمر من العمل المشترك. وتأتى جولة الرئيس عبد الفتاح السيسى الخليجية وزيارته التى تحظى باهتمام لافت فى كل من قطروالكويت لتؤكد حرص القيادة المصرية على الحفاظ على وتيرة التواصل رفيع المستوى مع جميع قادة دول الخليج، فى وقت تواجه فيه المنطقة اختبارات صعبة ومنعطفات قاسية تقتضى تنسيقا وتقاربا للرؤى والمواقف، فضلا عما تموج به الساحة الدولية من تحولات تبدو فى كثير من الأحيان «ضبابية»، مما يفرض تعاونا وتكاتفا سواء على المستوى الثنائى بين مصر والدول الشقيقة، أو على المستوى الجماعى العربى. وربما يحتل ملف التعاون الاقتصادى أولوية على أجندة الجولة الرئاسية فى قطروالكويت، فالاقتصاد بات جسرا مهما لبناء المصالح المشتركة وتعزيز العلاقات بين الدول والشعوب، خاصة فى وقت تواجه فيه المنطقة والعالم تحولات جمة، وارتدادات اقتصادية سلبية لأزمات مثل جائحة فيروس كورنا والحرب الروسية الأوكرانية، ثم انفجار الصراعات فى منطقة الشرق الأوسط، والآن تفرض أجواء الحرب التجارية العالمية ضغوطا متصاعدة على الاقتصاد العالمى. وتحظى مصر باهتمام كبير من جانب المؤسسات الاقتصادية الخليجية التى تنظر بإيجابية إلى الإصلاحات الاقتصادية المصرية فى السنوات الأخيرة، وتثمّن أجواء الاستقرار السياسى والأمنى الذى نجحت مصر فى تحقيقه بتضحيات كبيرة من رجال الجيش والشرطة ومساندة واحتضان شعبى ليس بجديد على الشعب المصرى الذى يعى جيدا أهمية الحفاظ على الوطن، ويدرك بوعى دوره فى صناعة هذا الاستقرار. كما أن الإصلاحات الاقتصادية المصرية المتعلقة بتحديث بنية التشريعات وإدخال مزيد من التيسيرات الإيجابية سواء فى استصدار التراخيص وإجراءات تأسيس الشركات، أو بإصدار وثيقة ملكية الدولة، التى تقضى بتخارج الدولة من العديد من القطاعات الاقتصادية وإتاحة تلك القطاعات للاستثمار المحلى والخارجى بأدوات متنوعة، باتت توفر فرصا واعدة للمستثمرين من مختلف الجنسيات، وبالأخص المستثمر الخليجى الذى يملك خبرة ودراية واسعتين بالسوق المصرية وإمكانياتها وفرص العمل والربح فيها. يُضاف إلى ذلك الفرص العملاقة التى تتيحها مشروعات التنمية الشاملة التى تتمسك الدولة بتنفيذها رغم كل التحولات الاقتصادية والضغوط نتيجة الأوضاع الإقليمية والدولية، وفى القلب منها المشروعات القومية الكبرى، وطرح العديد من المناطق الاستثمارية الواعدة فى مناطق الجذب السياحى والاستثمارى المتنوع، على غرار مشروعات تنمية منطقة رأس الحكمة، ومدينة العلمين الجديدة، والمنطقة الاقتصادية لقناة السويس، ومشروعات تنمية ساحل البحر الأحمر، وهو ما يوفر فرصا كبيرة ونقاط جذب مغرية للاستثمار الخليجى سواء على مستوى الشركات أو الصناديق السيادية. ولا يمكن بأى حال من الأحوال فصل الاقتصاد عن السياسة، فأبرز الأزمات الاقتصادية التى تعانيها المنطقة حاليا هى ظل لواقع سياسى بالغ الصعوبة، فالعدوان الإسرائيلى على غزة وتداعياته على جبهات متعددة فى البحر الأحمر والعديد من دول المنطقة، والتوتر المتصاعد بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل من جانب وبين إيران من جانب آخر يلقى بظلال سلبية على أمن الخليج العربى، والأزمات المشتعلة فى العديد من دول المنطقة ترفع من تكلفة الاستثمار وتزيد معدلات المخاطرة، الأمر الذى يجعل من التنسيق المصرى الخليجى وفق رؤية مشتركة تقوم على أهمية استعادة الاستقرار والهدوء الإقليمى أولوية تفرضها الضرورة وتضاعف من أهميتها اللحظة الراهنة. ولعل التنسيق المصرى مع دولة قطر فى ملف الهدنة بقطاع غزة، والمشاورات المتواصلة مع المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات وإمارة البحرين (رئيس القمة العربية) إضافة إلى التواصل المستمر والفعال مع كل من دولة الكويت وسلطنة عُمان، يضفى عمقا وزخما بالغى الأهمية لجهود تمكين مسار الاستقرار والإصلاح فى المنطقة، ويعزز الرؤية المصرية فى معالجة شاملة لجذور الصراعات الإقليمية، وليس الاكتفاء بمعالجة الأعراض والتداعيات، فقد اكتوت المنطقة بنيران الحلول المؤقتة، ودفعت ثمنا باهظا أمنيا وإنسانيا واقتصاديا للانفجارات المتكررة لجولات الصراع. كما أن تنسيق المواقف المصرية والخليجية يجعل الحوار مع القوى الدولية ذات التأثير فى واقع ومستقبل المنطقة - وفى مقدمتها الولاياتالمتحدة - أكثر فاعلية، على الأقل من منظور حسابات المصالح، فالولاياتالمتحدة شريك استراتيجى لمصر ولدول الخليج، ومن ثم يمكن الانطلاق من تلك الشراكة لبناء قاعدة أكثر تماسكا لحوار يراعى المصالح المتبادلة ، ويتجنب فخ المغامرات غير المحسوبة أو الرهانات الخطرة التى تنظر للأمور من زاوية واحة أو ضيقة، ولا تراعى مصالح جميع الأطراف. ختاما، فإنه من المؤكد أن يبقى التعاون المصرى الخليجى المشترك على جميع الأصعدة - حاليا ومستقبلا وكما كان دائما - رمانة ميزان لاستقرار المنطقة، وأداة فاعلة لتعزيز مسار الإصلاح والاستقرار، فى مواجهة مخططات الفوضى والسير بالمنطقة نحو حافة الهاوية.