إلى السيدات والسادة الكرام قراء اللواء الإسلامي، وإلى كل شعب مصر العظيم، وإلى الأمتين العربية والإسلامية، وإلى كل إنسان فى الوجود، وإلى كل ذرة فى هذا الكون، طيب الله أوقاتكم بكل خير، ونفوسكم بالطمأنينة، وعقولكم بالفهم المستنير. يسعدنى أن أكون معكم فى هذه الرحلة الممتدة، التى نتناول فيها القرآن الكريم، ونغترف من أنواره، لنتصيد منه اللؤلؤ والمرجان. ولنتذكر معًا قول الله تعالى: «مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22)». فإذا كان اللؤلؤ والمرجان وهذه الجواهر، والكنوز تخرج عندما تمتزج مياه البحرين، فكيف باللآلئ والكنوز التى تتوالد من أنوار القرآن الكريم وبحار علومه؟! فكل خُلُق فى القرآن الكريم لؤلؤة مكنونة، وكل قيمة من قيم القرآن الكريم درة وكنز. وعلى ذلك، ثمة كم عظيم من اللآلئ والمرجان والكنوز الكامنة فى القرآن الكريم، وعلينا أن نسعى إلى استخراجها والتحلى بها وقد استهللت هذه الرحلة من دار القرآن الكريم؛ علمًا بأن فكرتها تمثلت فى تخصيصها للقرآن الكريم، فجاءت مكونة من ثلاثين إيوانا،أو ثلاثين قاعة، نقش القرآن الكريم على جدرانها ، فكل قاعة عبارة عن جزء كامل من القرآن الكريم، وبذلك يكون عندنا ثلاثون إيوانًا بثلاثين جزءًا، لكل جزء من القرآن الكريم قاعة نقش القرآن على جدرانها، كأن الإنسان يعيش داخل قلب هذا الجزء من القرآن الكريم. ولذلك سنتناول فى كل أسبوع جزءًا من القرآن الكريم لنستعرض المعانى الإجمالية الموجودة فيه، ونقف وقفات سريعة عند بعض قيمه وأخلاقه – فتلك القيم والمعانى هى اللؤلؤ والمرجان المستخرج من القرآن الكريم. وأول ما نستفتح به اليوم الجزء الأول من القرآن الكريم، وتحديدًا من سورة الفاتحة: «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)». استعمل ربنا -جل شأنه- كلمة (العالمين)؛ ليعلمنا احترام العالم، ومراعاة وجود العالمين من حولنا، فتولد لنا من سورة الفاتحة معانى سامية منها: احترام الأكوان، وإكرام الإنسان، وحفظ الأوطان، وازدياد العمران، وزيادة الإيمان. فما أجمل ما يحمله القرآن الكريم من كنوز وجواهر وقيم وهداية وتشريع وتعبد... كلام الله -جل جلاله- موجّه إلى البشر، فهو باب الهداية الأعظم، والبرنامج الإلهى لهداية الإنسان عبر الزمان والمكان. فأول جزء من القرآن الكريم يتكلم عن الكتاب والهدى والتقوى، عن المؤمنين فى أربع آيات، وعن الكافرين فى آيتين وعن المنافقين فى ثلاث عشرة آية، فهو يحذر تحذيرًا شديدًا من النفاق. والنفاق يعنى أن الإنسان المنافق إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان. ثم انتقل فى الجزء الأول بالحديث عن خلق السماوات والأرض، ثم خلق آدم وأن الله جمَّله بالعلم، ثم انتقل إلى أمر الله للملائكة بالسجود لآدم،وأن إبليس أبى واستكبر. ثم انتقل إلى أخبار بنى إسرائيل مع سيدنا موسى -عليه السلام؛ فتجد فى ذلك عجائب وقصصًا وأحوالاً مدهشة من أحوال بنى إسرائيل مع سيدنا موسى عليه السلام، إذ أرهقوا سيدنا موسى عليه السلام وقتلوا الأنبياء بغير حق. وينتقل بنا الجزء بعد ذلك إلى الملكين هاروت وماروت، وإلى أخبار نزول الملكين فى بابل، ثم إلى فيض من المعانى والأنوار حتى ينتهى بنا الجزء الأول عند نبى الله إبراهيم عليه السلام، وهو يرفع القواعد من البيت مع ابنه إسماعيل، ويدعو الله فى ذلك الحين ببروز شمس الهداية العظمى «رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ، إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (البقرة: 129)». فتعالوا بنا نأخذ مجموعة من القيم المحدودة، من الجزء الأول من القرآن الكريم . أول قيمة هى قول الله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا» (البقرة: 31). فأول باب من أبواب الشرف والكمال والمجد والنور أسبغه الله على البشر والإنسان هو ثوب العلم، فلما قالت الملائكة «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» (البقرة: 30)، بيّن الله لهم أن علاج هذه المشكلة فى العلم، فشرف الإنسان بالعلم، والقانون الأعظم لبناء الحضارات والأمم والدول والشعوب هو العلم. ولأجل هذا ذكر الله فى هذا الجزء الأول قصة بنى إسرائيل مع سيدنا موسى، حينما قال لهم: «إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكم أنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً» (البقرة: 67)؛ فسألوا سؤالاً فيه تعنت، بخلاف ملائكة الرحمن، فسؤالهم كان للعلم، وسؤال بنى إسرائيل كان تعنتًا، يقدمون أعذارًا وأسئلة متوهمة، ليتهربوا ويتفلتوا من تنفيذ أمر الله، ولهذا اختار الله لهذه السورة اسم سورة البقرة. فقصة البقرة ليست مجرد قصة فى وقت من الزمن، بل هى قصة البشرية جميعًا، قصة بنى إسرائيل أكبر نموذج للإنسان، إذا تعنت وتكبر، وإذا أبى أن يصل إلى المعرفة، ثم يصدر المشكلات التى تعوقه عن التعلم فى يوم من الأيام. العلم هو أكبر باب من أبواب الشرف والمجد، وأول قيمة نخرج بها من هذا الجزء هى قيمة العلم، مع التحذير الشديد من الكبر والعناد، ككبر إبليس لما استكبر أن يسجد لآدم عليه السلام. فالقيمة الأولى: الحرص الشديد على العلم، لأن علاج الأزمات بالعلم كما يقول العبقرى أحمد زويل. والخلاصة: «العلم هو الحل، إياك والكبر، إياك والعناد». أما القيمة الثانية فمستفادة من قول الله تعالى: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا «(البقرة: 83)؛ وهى من أعجب الحكم والكنوز، فخطاب الله لكل إنسان على وجه الأرض أن يتكلم مع الناس بالحسنى، يعنى إياك والكذب. ولذا أمر الله بالصدق، يعنى إياك وفحش الحديث، يعنى إياك وأن تتعامل فى عالم التواصل الاجتماعى بالألفاظ القبيحة، أو الهجوم الشرس، أو التنمر، أو تكشف عيوب الناس... كما أن هذا الأمر (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) ليس معناه أن الخطاب الحسن مختص بمن تحبه، ليس مختصًا بالأقارب والأهل والأرحام، فالمخاطبة بالحسنى للناس جميعًا، فخاطب كل إنسان على وجه الأرض بالكلام الحسن، وإياك أن تكون فى يوم من الأيام قبيح القول، قبيح اللفظ. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس المُؤمِنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البَذيءِ» (رواه الطبراني). وأما القيمة الثالثة ففى قول الله تعالى: «وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ» (البقرة: 102)؛ ذلك بأن القرآن يحذر تحذيرًا شديدًا من أن يسعى الإنسان بين الناس بالوقيعة، والغيبة والنميمة ونقل الكلام، وإفساد العلاقات الاجتماعية، فإياك وقطيعة الرحم، أو تدمير الصداقات، فإياك وأن تقع فى هذا الفخ الذى وقعت فيه الأمم السابقة. وأما القيمة الرابعة فمستقاة من قول الله تعالى «وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا» (البقرة: 126)، هذا أبو الأنبياء -إبراهيم عليه السلام - يتضرع إلى الله جل وعلا لتكون مكة بلدة آمنة، ولهذا سميت بالبلد الأمين. قال تعالى: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ» (التين: 1-3)، فيتعلم الإنسان الذى يقرأ القرآن فى كل مكان على وجه الأرض أن يدعو الله بالأمان لبلده. بهذا علمنا القرآن تعظيم قيمة العلم، وإياك والكبر، تكلم مع الناس جميعًا بالكلام الحسن، وإياك أن تسعى بين الناس بالوقيعة، واحرص على الدعاء دائمًا بالأمان للبلد الذى أنت فيه. (وإلى لقاء يتجدد)