بورسعيد: أيمن عبد الهادى لم يدر محمد عثمان، مُعلم الرياضيات الذي يحبه كل تلاميذه، أن صباح ثاني أيام العيد سيكون الأخير في حياته، استيقظ مبكرًا كعادته، ارتدى ملابسه الجديدة، تبادل التهاني مع أسرته، ثم حمل نفسه إلى الشارع، يبتغي إفطارًا بسيطًا لأبنائه، يفكر في خطته لقضاء اليوم معهم، كانت ضحكات الصغيرة تتردد في أذنه، بينما يداه تتحسسان جيبه بحثًا عن نقود يُبهج بها أسرته.. لكن الرصاصة التي انطلقت من مسدس قاتله بالخطأ لم تكن تعرف شيئًا من ذلك، وإنما أردته قتيلًا. في لحظة خاطفة، تحوّلت منطقة «الإسراء» الهادئة في حي الضواحي بمحافظة بورسعيد إلى مسرح جريمة، حين دوى صوت طلق ناري، ليسقط محمد عثمان أرضًا، والدماء تنزف من رأسه، بينما يهرع الجيران في حالة من الذهول والارتباك. لم يكن الضحية طرفًا في مشاجرة، ولم يختلف مع أحد لكنه، للأسف، كان يقف في المكان الخطأ، في التوقيت الخطأ، حين أطلق أحدهم رصاصة تجاه شخص آخر، فأصابت رأسه ومعها أصابت قلب عائلة بأكملها. فرحة العيد في البداية، لم يصدق أحد أن محمد، الأب الهادئ والمُعلم المحبوب، فارق الحياة، بدا الجميع من اللحظة الأولى في حالة ذهول حتى الزوجة والأبناء لم يستوعبوا الأمر قبل انهيارهم قالوا بلسان واحد: «إزاي؟ ده لسه نازل من شوية، أكيد مش محمد ده رايح يجيب فطار»؟، هكذا صاحت الأسرة ومعها أحد جيرانه وهو يركض باتجاه المكان الذي وقع فيه، محاولًا إنقاذه، سيارة الإسعاف جاءت سريعًا، لكن كان الآوان قد فات. الرصاصة أصابت الرأس مباشرة، لتنهي حياة رجل لم يكن يحمل في يده سوى كيس خبز وبعض النقود. نُقلت الجثة إلى مشرحة المستشفى، بينما وقف الأبناء، والزوجة، والأشقاء في حالة إنكار غير مصدقين، «أكيد في غلط»، هكذا قالت شقيقته، وهي تجهش بالبكاء، بعد أن تلقت مكالمة تخبرها بالكارثة، لم تستوعب الأمر حتى رأت جثمان شقيقها، لتنهار تمامًا وتصرخ: «كان هيجيلي يزورني.. قالي هشوفك بكرة.. هو فين بكرة دلوقتي»؟! صدمة النهاية أصعب ما في الفاجعة لم يكن موت محمد فحسب، بل ما تبعها من صدمات نفسية لأسرته، ابنته الصغيرة فقدت النطق فور سماعها بالخبر، ولم تنطق بكلمة منذ ذلك الحين. يقول زوج ابنة محمد، في حديث مؤلم: «كانت قاعدة جنبي، مسكت الموبايل، شافت صورة أبوها مقتول جنب صندوق القمامة.. ومن ساعتها وهي ساكتة.. مش عايزه تتكلم ومش عارف أعمل ايه، الأطباء قالوا لنا: «دي صدمة النهاية». يحكي الرجل عن مشهد الغُسل، والرصاصة التي فتحت رأس والد زوجته، قائلاً: «كان نازل يجيب الفطار لعياله.. اتضرب ومات.. العيد بقى مأتم.. وأنا مش قادر أنسى شكله وهو نايم على خشبة الغُسل». المدرسة تودّع مُعلمها عندما زُفّ جثمان محمد عثمان إلى مثواه الأخير، شارك المئات من الأهالي والمعلمين في جنازة مهيبة، سادها الحزن العميق والذهول، وقف زملاؤه من مدرسة «عقبة بن نافع» الابتدائية، يودّعونه بكلمات دامعة: «كان معلمًا مخلصًا.. لم يؤذِ أحدًا يومًا.. رحل وهو بريء حتى من العنف». الزوجة دخلت في نوبة بكاء هستيري، وهي تُمسّك بالكفن، ترفض أن تُفارق الجثمان، بينما اصطف الأبناء حولها، يرددون سؤالًا بريئًا: «بابا راح فين»؟! فتحت جهات التحقيق ملف القضية سريعًا. وانتقلت قوة أمنية إلى موقع الحادث، وبدأت فحص الكاميرات، واستجواب الشهود، وتبين من التحريات أن الطلقة التي أصابت محمد لم تكن تستهدفه، بل كانت موجهة إلى شخص آخر، في خصومة مع القاتل، محمد، الذي لم يعرف الخلاف، ولم يسمع الشجار، كان مجرد ضحية «طلقة طائشة» قررت أن تخطف أبًا في عزّ فرحته. 72 ساعة من المطاردة لم تنتظر مديرية أمن بورسعيد كثيرًا، فأصدر اللواء تامر السمري مدير الأمن توجيهاته بتشكيل فريق بحث مكثف برئاسة اللواء ضياء زامل مدير مباحث المديرية، الكاميرات، التحريات، الأكمنة.. كل الوسائل وُضعت على الطاولة. خلال 72 ساعة فقط، تمكّن الفريق الأمني من ضبط الجاني والسلاح المستخدم. المجرم، كما تبين انه معتاد إجرام، وكان يبيت النية لقتل شخص تربطه به خصومة عائلية، لكن القدر أراد أن تصيب الرصاصة رجلاً بريئًا. ألقت قوات الأمن القبض عليه، وسط ارتياح شعبي واسع، وأشاد الأهالي بسرعة التحرك الأمني، ومتابعتهم المستمرة للقضية حتى ضبط القاتل. العدالة تنتظر المتهم اليوم، تقف أسرة محمد عثمان على أعتاب ألمٍ لا ينتهي، تحاول أن تلملم بقاياها، أن تهدّئ الأطفال، أن تعيد البسمة لابنته التي لم تنطق منذ يوم الحادث. لكن النار لن تنطفئ إلا بالعدالة. قالت شقيقته ل «أخبار الحوادث»: «مش عاوزة غير حق أخويا.. عاوزة القاتل يتحاسب.. أخويا كان طيب ومحبوب.. وكان بيجهز نفسه إنه يتولى إدارة المدرسة بعد العيد.. ده ماستحقش يموت كده». ومن ناحية أخرى ودّعت بورسعيد أحد أنبل معلميها، رجل لم يكن يحمل سلاحًا، بل طباشير، ولم يُشهر سكينًا، بل قلمًا، لم يعلُ صوته إلا بشرح درس، أو نصيحة تلميذ، لكن طلقة واحدة، من يد مجرم، قررت أن تطفئ نوره للأبد. وفي الختام ينتظر أبناء محافظة بورسعيد تحقيق العدالة الناجرة وسرعة الحكم على المتهم، ليكون عبرة لكل من تسول له نفسه حمل السلاح داخل المدينة، واطلاق النيران والقتل، حتى ولو كان خطأ. اقرأ أيضا: الداخلية تكشف تفاصيل فيديو التحرش بسيدة في بورسعيد