حالة من الضبابية والخمول الذهنى تهدد أطفالنا لسيطرة الهواتف الذكية على حياتهم وإفراطهم فى استهلاك مواد تافهة دون ممارسة أنشطتهم الرياضية والاجتماعية والثقافية والذهنية لتنشيط أدمغتهم. تختار دار أوكسفورد البريطانية للنشر كل عام كلمة يطلق عليها «كلمة العام» - وعن العام الأخير تم طرح 6 كلمات للاختيار فيما بينها وتم التصويت عليها من قبل 37 ألف مشترك. جاءت كلمة (brain rot) أو «عفن الذهن» الأعلى تصويتا .. تم تعريف هذه الكلمة على أنها تصف مجموعة الأعراض المصاحبة لتدهور القدرات الذهنية والفكرية للشخص نتيجة الاستهلاك المتزايد بشكل غير طبيعى لمعلومات غير صحيحة على الإطلاق من عدة مصادر أولها بالطبع الإنترنت. وتزيد احتمالات الإصابة بهذه الحالة كلما ابتعد الشخص عن ممارسة أى تحديات أو واجبات ذهنية لتنشيط الدماغ. وهناك توافق بين علماء النفس والاجتماع والأطباء على وجود صلات تنذر بالخطر نتيجة الإفراط فى قضاء الوقت أمام شاشات الموبايل وما يترتب على ذلك من تداعيات سلبية على الصحة العقلية والتحصيل الدراسى للأطفال والشباب لعل أهمها معاناتهم من عدم التركيز والنسيان والتشتت الذهني، خاصة وأن معظم ما يبحثون عنه لا يثير التحدى ولا التفكير المنطقى والنقدى الذى يساعدهم على التحصيل الدراسى المأمول. وأمام تلك المعضلة لم يكن غريبا أن تبادر العديد من الدول الأوربية بفرض حظر على استخدام الهواتف المحمولة فى مدارسها أو فرض قيود على استخدامها خلال ساعات الدراسة .. وتسعى تلك الدول للبحث عن الوسائل التى تتمكن بها من تقليص الوقت الذى يقضيه الأطفال أمام شاشات الهواتف خشية إعاقة نموهم. السويد كانت أول من طالبت بمنع الرضع دون عمر السنتين من التعرض للشاشات الإلكترونية تفادياً للآثار السلبية على صحتهم .. وتتواصل مطالبات هيئة الصحة العامة هناك للأمهات بعدم السماح لأطفالهن الذين تتراوح أعمارهم بين عامين و5 أعوام من تعريضهم للشاشات لأكثر من ساعة واحدة كحد أقصى يوميا .. بينما يجب ألا يُمضى الذين تتراوح أعمارهم بين 6 و12 عاما أكثر من ساعتين يوميا أمام الشاشة .. أما المراهقين الذين تتراوح أعمارهم بين 13 و18 عاما فيجب ألا تتجاوز مدة تعرّضهم للشاشات 3 ساعات يوميا. الخبراء هناك أكدوا على أنه لفترة طويلة جدا سُمح للهواتف الذكية والشاشات الأخرى بالدخول إلى كل جانب من جوانب حياة الأطفال وأن هذا لا يترك الوقت الكافى لممارسة الأنشطة المجتمعية أو النشاط البدنى أو النوم الكافى وأصبح لديهم أزمة النوم، حيث إن أكثر من نصف الأطفال فى سن 15 عاما لا يحصلون على قسط كافٍ من النوم.. وطالبوا بعدم استخدام الأطفال للشاشات قبل الذهاب إلى النوم وإبعاد الهواتف عن غرفة النوم ليلا، حيث إن الإفراط فى استخدام الشاشات يمكن أن يؤدى إلى قلة النوم والاكتئاب وعدم الرضا عن الجسم. لم يقتصر الأمر على السويد .. فقد لجأت بعض الدول كإيطاليا وهولندا وفرنسا وبلجيكا واليونان وإسبانيا لحظر استخدام الأطفال والمراهقين للهواتف المحمولة فى المدارس وإن كان هذا الحظر لم يكن مطلقا، حيث يتم استخدام تلك الهواتف داخل الفصول إذا كان ذلك ضروريا بالنسبة لدروس بعينها و كان الأمر يتعلق بتعلم مهارات التواصل أو إذا كان الطلاب بحاجة إليها لأسباب طبية أو بسبب إعاقة ما ..فهناك تشجيع على الجانب الإيجابى عندما يحرص الأطفال والشباب على البحث على ما يصقل مواهبهم ومعارفهم بالبحث عن تلك المعارف من مصادرها الموثوقة دون الوقوع فى براثن المواقع التافهة . قرار المدارس المصرية وزارة التربية والتعليم فى مصر أيضا أحسنت صنعا بقرار حظر استخدام الطلاب للهواتف المحمولة بالمدارس .. فآخر الاحصائيات أكدت أن قرابة 78% من الأطفال فى مصر يلعبون ألعابا إلكترونية غير مناسبة لأعمارهم كما أن عددا غير قليل منهم كان يذهب للمدرسة بهاتفه ويظل مشتت الذهن والانتباه منشغلا بهاتفه. القرار وحده بالقطع لن يكون كافيا لحماية أبنائنا من آثار الاستخدام المفرط لتلك الهواتف بل يتحتم التوعية والرقابة من جانب وسائل الإعلام والأسرة والقائمين على العملية التعليمية لتلاميذ وطلاب المدارس لضمان تصحيح مسارهم والتعامل الهادف مع تلك الأجهزة بما ينمى ملكاتهم وقدراتهم العقلية والذهنية. إن السعى للتعافى من الاستغراق لساعات طويلة فى التفاعل مع مواقع التواصل بات ضرورة حتى لا نحرمهم من تعدد وتكامل أنشطتهم، فيجب تنشئتهم على ممارسة أنشطتهم الرياضية والثقافية والاجتماعية والترويحية حتى لا يقعوا فى فخ إدمان وسائل التواصل الاجتماعى التى تبتلع كل وقتهم وجهدهم واهتماماتهم فتدمرهم حيث يعيشون فى حالة سكر إلكترونى خادع. الإدمان السلوكي ظل المفهوم السائد عن الإدمان أنه إدمان المواد المخدرة .. لكن الإدمان السلوكى أصبح شائعا خلال الآونة الأخيرة مع انتشار استخدام الهواتف الذكية والانترنت والألعاب الالكترونية فأصبح الكثيرون متورطين فى إدمان الإنترنت وخاصة مواقع التواصل الاجتماعى والتى لها جاذبية شديدة تجعل مستخدمى الهواتف الذكية أسرى لها وتستنزف الكثير من وقتهم . كما تزايد الاهتمام بالعلاقة بين الصحة النفسية واستخدام مواقع التواصل الاجتماعى .. فأشارت نتائج الأبحاث لوجود ارتباط بين زيادة استخدام وسائل التواصل الاجتماعى فى المراهقين والشباب وزيادة مشاكل الصحة النفسية لديهم. لكن ما هى العلامات الفارقة بين إدمان مواقع التواصل الاجتماعى والاستخدام الطبيعى لها ؟ إنه السؤال الأبرز الذى يتم تداوله فى أروقة الهيئات العلمية. وهناك ما يشبه الإجماع بأنه متى بدأ الشخص يتجاهل الأنشطة والمناسبات ومسؤوليات العمل والدراسة والرياضة أو تتزايد شكوى المقربين منه من قضائه الوقت الطويل على مواقع التواصل الاجتماعى وأصبح من المستحيل تقليل وقت متابعته لها مع بروز أعراض انسحابية عندما يكون الشخص بعيداً عن جهاز الهاتف المحمول ويصل معها لمرحلة ترك الواجبات والأعمال المهمة وتفضيل الحديث مع الناس على الإنترنت بدلاً من المواجهة وجهاً لوجه هنا تكون علامات الخطر ودخوله بالفعل لمرحلة إدمان الإنترنت. الطريق للتعافى لكن كيف يتم التعامل مع الآثار الضارة لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي؟ لا يوجد علاج بعينه يمكن وصفه لعلاج هذه المشكلة.. لكن لا تزال الأبحاث تتواتر فى الموضوعات ذات الصلة كاضطراب إدمان الانترنت ووسائل المواجهة بتوازن يحقق الاستفادة القصوى من التطور التقنى الهائل دون الاستغراق المرضى فيه. الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال أصدرت توصية للوقت الذى ينبغى أن يقضيه الأطفال وأسرهم امام الشاشة والتدخلات العلاجية مثل العلاج السلوكى المعرفى والاستخدام المؤقت للتطبيقات ودعم الأسرة ومنظمات المجتمع والمدارس. وهناك دعوات لتدخل الشركات التقنية كفيس بوك وإنستجرام لاستخدام أدوات جديدة تساعد فى تخفيف الإدمان على منتجاتهم وجعل منصاتهم آمنة لاستخدام الإنترنت لأن الحل الذى يتحدث عنه البعض بالابتعاد عن وسائل التواصل الاجتماعى تماما أصبح مستحيلا، خاصة للذين ترتبط أعمالهم ومصالحهم وعلاقاتهم بوسائل التواصل الاجتماعى فهؤلاء يحتاجون لزيادة الوعى ومعرفة حدود الاستخدام المفرط وعلامات إدمان وسائل التواصل.