شهد العراق قبل 22 عامًا حدثًا مفصليًا في تاريخه المعاصر، حيث سقطت العاصمة بغداد في التاسع من أبريل 2003 بعد غزو التحالف الدولي بقيادة الولاياتالمتحدةالأمريكية، إلا أن ذلك اليوم الذي تهاوى فيه تمثال صدام حسين في ساحة الفردوس وسط بغداد، أصبح علامة فارقة في تاريخ العراق والمنطقة بأكملها، حيض انه بعد مرور أكثر من عقدين على هذا الحدث، ما زال العراق يسعى لاستعادة استقراره وبناء مستقبله رغم التحديات الجسيمة التي واجهها وما زال يواجهها. الغزو وذرائعه بدأت العملية العسكرية ضد العراق في 20 مارس 2003، عندما أعلن الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن إطلاق ما أسماه عملية "تحرير الشعب العراقي" بمشاركة حوالي 36 قوة عسكرية من دول مختلفة. كان السبب المعلن للغزو هو امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، وهو ما ثبت لاحقًا عدم صحته، حيث أكد مفتش الأسلحة الأمريكي ديفيد كاي في تقريره عام 2004 أن فريقه "لم يجد أي دليل على وجود مخزون من أسلحة الدمار الشامل في العراق". بعد أقل من شهر من بدء العمليات العسكرية، سقطت بغداد في 9 أبريل 2003، وبعدها بأسابيع قليلة أعلن بوش في خطابه الشهير في الأول من مايو أن "المهمة قد أُنجزت" وأن قوات التحالف تسيطر على العراق. هذا الإعلان المبكر للنصر سرعان ما تبين أنه كان سابقًا لأوانه، حيث دخل العراق بعدها في دوامة من العنف والاضطرابات استمرت لسنوات طويلة. قرارات بريمر وبداية الفوضى الأمنية شكل قرار بول بريمر، رئيس سلطة التحالف المؤقتة، بحل الجيش العراقي وأجهزة الاستخبارات في 23 مايو 2003 نقطة تحول خطيرة في مسار الأحداث، إذ أدى هذا القرار إلى تسريح مئات الآلاف من العسكريين المدربين دون تأمين بدائل لهم، مما خلق بيئة خصبة للتمرد والعنف. لم يمض وقت طويل حتى بدأت موجات المقاومة ضد قوات الاحتلال، وشهد أغسطس 2003 بداية جدية للتمرد المناهض للتحالف، وتتالت الهجمات الدامية التي استهدفت السفارة الأردنية ومقر الأممالمتحدة في بغداد الذي أودى بحياة المبعوث الأممي سيرجيو فييرا دي ميلو، وتفجير مزار النجف الذي راح ضحيته أكثر من 85 شخصًا، بينهم الزعيم الشيعي آية الله محمد باقر الحكيم. نهاية نظام صدام حسين والفراغ السياسي في 14 ديسمبر 2003، ألقت قوات التحالف القبض على الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين في مخبأ قرب مدينة تكريت. وبعد محاكمة استمرت نحو ثلاث سنوات، أصدرت المحكمة الجنائية العراقية المختصة حكمها بإعدامه شنقًا في 5 نوفمبر 2006، وتم تنفيذ الحكم فجر يوم عيد الأضحى الموافق 30 ديسمبر من نفس العام. رغم أن الاحتلال الأمريكي نجح في إسقاط نظام صدام حسين، إلا أنه فشل في ملء الفراغ السياسي والأمني الذي نتج عن ذلك، إذ أدت السياسات الخاطئة لسلطة الاحتلال، خاصة سياسة "اجتثاث البعث" وحل الجيش، إلى تهميش قطاعات واسعة من المجتمع العراقي، مما أسهم في تفاقم الانقسامات السياسية والطائفية. تصاعد العنف والحرب الأهلية الطائفية شهد العراق بعد عام 2004 تصاعدًا مروعًا في أعمال العنف، خصوصًا بعد معركة الفلوجة الأولى والثانية اللتين أدتا إلى تدمير معظم هذه المدينةالعراقية. ومع نهاية عام 2005، بدأ العنف يأخذ طابعًا طائفيًا أكثر وضوحًا، حيث اندلعت ما يشبه الحرب الأهلية بين السنة والشيعة، مع عمليات تطهير عرقي وهجمات إرهابية في الأحياء ذات التركيبة السكانية المختلطة. هذه الفترة شهدت أيضًا صعود تنظيمات إرهابية متطرفة، أبرزها تنظيم القاعدة في العراق بقيادة أبو مصعب الزرقاوي الذي قتل في غارة أمريكية في يونيو 2006، كما لم تنجح العملية السياسية التي قادتها الولاياتالمتحدة في تحقيق الاستقرار المنشود، وتعمقت الانقسامات الطائفية والعرقية في ظل حكومة لم تنجح في بناء مؤسسات قوية وشاملة. المقاومة ضد الاحتلال والحذاء الرمز اتخذت مقاومة الاحتلال الأمريكي أشكالًا مختلفة، من المقاومة المسلحة إلى الاحتجاجات السلمية والرفض الشعبي، ولعل من أشهر رموز هذه المقاومة حادثة إلقاء الصحفي العراقي منتظر الزيدي حذاءه على الرئيس الأمريكي جورج بوش خلال مؤتمر صحفي في بغداد في 14 ديسمبر 2008. صرخ الزيدي وهو يلقي حذاءه الأول: "هذه قبلة وداع من الشعب العراقي أيها الكلب"، وعندما ألقى حذاءه الثاني صرخ: "هذا للأرامل والأيتام وكل القتلى في العراق". تحولت هذه الحادثة إلى رمز للاحتجاج ضد الاحتلال، وعبرت عن مشاعر قطاع واسع من العراقيين والعرب تجاه السياسات الأمريكية في المنطقة. انسحاب القوات الأمريكية والتحديات الجديدة مع انتخاب باراك أوباما رئيسًا للولايات المتحدة في نهاية 2008، والذي وعد بسحب القوات الأمريكية من العراق، بدأت مرحلة جديدة في تاريخ البلاد، بعد عدة سنوات من تصاعد العنف، وبعد أن فاز نوري المالكي بولاية ثانية كرئيس للوزراء في ديسمبر 2010، غادرت آخر القوات الأمريكيةالعراق في ديسمبر 2011، منهية رسميًا فترة الاحتلال العسكري المباشر. إلا أن انسحاب القوات الأمريكية لم ينه تحديات العراق، بل فتح الباب أمام تحديات جديدة ومعقدة، إذ استمرت الانقسامات السياسية والطائفية، وضعف أداء المؤسسات الحكومية، وتفشي الفساد، كلها عوامل مهدت لاحقًا لظهور تنظيمات إرهابية جديدة أبرزها تنظيم "داعش" الذي سيطر على مساحات واسعة من الأراضي العراقية في 2014. العراق اليوم بعد مرور 22 عامًا على سقوط بغداد، ما زال العراق يكافح من أجل تحقيق الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي. رغم التحديات الهائلة التي واجهها، نجح العراق في تحقيق بعض الإنجازات المهمة، منها هزيمة تنظيم داعش عسكريًا، وإجراء انتخابات متعددة، والبدء في إعادة إعمار المناطق المتضررة من الحرب. يسعى العراق اليوم، بقيادته الوطنية وشعبه الصامد، إلى استعادة دوره الإقليمي والدولي، وتعزيز استقلاله السياسي، وتنويع علاقاته الدولية بما يخدم مصالحه العليا، كما يعمل على إعادة بناء اقتصاده وتطوير بنيته التحتية، واستثمار موارده الطبيعية لصالح شعبه. دروس من الماضي وتطلعات للمستقبل تقف ذكرى سقوط بغداد اليوم شاهدة على فصل مؤلم من تاريخ العراق، لكنها أيضًا تمثل فرصة لاستخلاص الدروس والعبر للمستقبل، إذ أثبتت تجربة العقدين الماضيين أن التدخلات العسكرية الخارجية غالبًا ما تؤدي إلى نتائج كارثية، وأن فرض التغيير من الخارج دون مراعاة للخصوصيات المجتمعية يزيد الأوضاع تعقيدًا. اليوم، وبعد 22 عامًا على سقوط بغداد، يتطلع العراقيون إلى غد أفضل، متسلحين بإرادة وطنية صلبة وتصميم على تجاوز إرث الماضي الأليم، وبناء مستقبل يليق بتاريخ وأمجاد بلاد الرافدين.