قرأت كثيرًا عن أصحاب الأخدود، وما لقوه من أهوال، فقط لأنهم آمنوا بربهم، ورفضوا الانصياع لأوامر الحاكم حين خالفت عقيدتهم أوامره. قرأت عن نارٍ أُضرمت فى أجسادهم لا لذنب سوى أنهم قالوا «ربنا الله»، فخُيِّل إليّ حينها أن تلك المأساة هى أقصى ما يمكن أن يبلغه الظلم والطغيان. وقرأت أيضًا عن أهوال الحرب العالمية الثانية، وعن الفظائع التى ارتكبتها النازية بحق البشرية، وكيف سُحقت فيها الكرامة الإنسانية تحت أقدام الأيديولوجيا المجنونة.. وسَرَحتُ بخيالى طويلًا أحاول أن أتصور هذه المآسي، وكنت دائمًا أظن أن ما قرأته يفوق التصور، ويتجاوز قدرة العقل على التخيّل. لكننى الآن، وأنا أتابع ما يحدث فى غزة، أدرك أن خيالى كان محدودًا جدًا، وأن الواقع - للأسف - أفظع وأقسى وأبشع مما قرأت، ومما تصورت. أشاهد بالصوت والصورة ما يفوق وصف الكارثة: أسلحة محرمة تُستخدم بلا رادع، تحرق البشر والشجر والحجر، تمحو المعالم، وتُبيد العائلات عن بكرة أبيها.. أرى غزة، بكل وجعها وصمودها، تُباد على مرأى من العالم، والعالم لا يحرك ساكنًا. العجيب أن هذه الفصول الثلاثة من المآسى - أصحاب الأخدود، الحرب العالمية، وغزة - تشترك فى خيطٍ واحدٍ قاسٍ: وجود المجرم اليهودى فى المشهد، حاضرًا بالفعل أو بالتخطيط أو بالسكوت. منذ السابع من أكتوبر 2023، وحتى لحظة كتابة هذه السطور، تخطى عدد الشهداء فى غزة حاجز ال65 ألفًا - أكثر من 70% منهم من الأطفال والنساء - وهذه أرقام لا تمثل الحقيقة كاملة، فهناك عشرات الآلاف مازالوا مطمورين تحت الأنقاض، ومئات الآلاف من الجرحى الذين فتكت بهم أسلحة محرّمة دوليًا، لكنها مباحة فى فلسطين، لأنها أرض «مباحة الدم» فى عرف هذا العالم الظالم. وإن غابت غزة اليوم عن الجغرافيا بفعل المجازر، فإنها حاضرة فى التاريخ، باقية فى الضمائر، وستعود، لا محالة، لأن الأرض لا يمحوها الغدر، ولأن الدم لا يهزم الروح.