في عالمٍ تغزوه الإشارات اللاسلكية والتكنولوجيا الذكية، يلفت النظر رمز غريب محفور على جدار معبد فيلة جنوب مصر، يشبه إلى حد كبير رمز "الواي فاي" الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية. اقرأ أيضاً| صورة الكاتب على ورقة ال200 جنيه: رمز المعرفة في الحضارة المصرية القديمة وهذا التشابه اللافت يطرح تساؤلات عديدة حول فكر المصري القديم، ومدى رمزية هذه النقوش، وعلاقتها بالاتصال الروحي بين الإنسان والآلهة. فهل نحن أمام صدفة بصرية؟ أم أن هناك مفهومًا عميقًا للاتصال في الحضارة المصرية القديمة؟ وفي هذا التقرير نستعرض القصة الكاملة لمعبد إدفو، ونفكك رموزه، ونحلل ما قيل عن "رمز الواي فاي" من منظور علم الآثار والتاريخ، كما يأكده لنا في تصريحات خاصة ل "بوابة أخبار اليوم" دكتور الآثار المصرية وخبير التسويق السياحي محمد على حسن الشربيني . ** "معبد إدفو" تحفة بطلمية تسرد أسطورة حورس ويُعد معبد إدفو واحدًا من أضخم وأفضل المعابد المصرية القديمة حفظًا، ويقع على الضفة الغربية لنهر النيل، في مدينة إدفو بمحافظة أسوان. بُني في العصر البطلمي وتحديدًا بين عامي 237 و57 قبل الميلاد، وتم تخصيصه لعبادة الإله حورس، أحد أبرز الآلهة في الميثولوجيا المصرية. ويتسم المعبد بهندسته المعمارية الرائعة، التي تعكس أساليب البناء المصرية القديمة، على الرغم من تشييده في العهد اليوناني الروماني. ويتضمن المعبد قاعة أعمدة ضخمة، وحوائط مرصعة بالنقوش التي تحكي صراع حورس مع الإله ست، منتقمًا لمقتل والده أوزيريس. وقد خُصصت بعض الجدران لتوثيق الطقوس الدينية، ومواسم الحصاد، وأسرار علمية كانت تُنقل للكهنة والنبلاء فقط. ** نقش "رمز الواي فاي" صورة واحدة وقراءات متعددة الجدل المثار حول ما يُعرف ب"رمز الواي فاي" على جدران معبد إدفو بدأ بصورة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، تُظهر نقشًا يشبه إلى حد بعيد أيقونة الإشارة اللاسلكية المعروفة(Wi-Fi) ، حيث تظهر خطوط منحنية فوق بعضها، تتناقص في الطول من الأعلى للأسفل، تمامًا كما هو الحال في إشارات الشبكة اللاسلكية على شاشات هواتفنا الذكية. وبالرغم من التشابه الشكلي، فإن الأثريين يؤكدون أن هذا الرمز هو في الحقيقة جزء من منظومة تصويرية رمزية استخدمها المصريون القدماء، ولا يمت بأي صلة إلى التكنولوجيا الحديثة، بل يعبر غالبًا عن مفاهيم دينية أو طقسية مثل الطاقة الإلهية، الانبعاث، أو إشارات الإله حورس أو رع. ** تفسير النقش من وجهة نظر علم الآثار ويشرح علماء المصريات أن هذا النقش يُعرف باسم "رمز الموجة" أو "رمز البث الروحي"، وقد ورد في العديد من النقوش المصرية الأخرى بأشكال متعددة، غالبًا فوق رؤوس الآلهة أو ضمن مشاهد طقسية تمثل تدفق الطاقة أو الصوت الإلهي. ويرى بعض الباحثين أن هذه الرموز كانت طريقة المصري القديم في التعبير عن الإشارات غير المرئية التي تصدر من الآلهة نحو الكهنة أو الناس، كتجليات روحية أو قوى خفية، وهو ما يفسر وجود تلك الرموز في سياقات طقسية بحتة. ** "رمزية النقوش المصرية القديمة" وعلاقتها بالمفاهيم الحديثة واستخدم المصريون القدماء الرمزية بشكل مكثف، وكانت رسوماتهم ونقوشهم تتجاوز المعنى الظاهري لتشير إلى مفاهيم فلسفية ودينية معقدة. فالطائر مثلًا قد يدل على الروح، والعين ترمز إلى الحماية والمعرفة (عين حورس)، والموجات المنحنية قد ترمز إلى انتقال الصوت أو النور أو حتى الروح. اقرأ أيضاً| أصل الحكاية| «الكتلة الحجرية» بمتحف ميونخ نافذة على معتقدات المصريين القدماء ويمكن القول إن التشابه بين رمز "الواي فاي" الحديث وهذه النقوش هو مجرد تصادف شكلي، نتيجة لاستخدام البشر لنفس الأنماط البصرية عند التعبير عن مفاهيم غير مرئية كالإشارات أو الموجات أو الطاقة. ** القرابين الروحية: وسيلة الاتصال بين الأرض والسماء وفي الطقوس المصرية، لم تكن القرابين المادية (كالطعام أو العجل) هي الوحيدة المقبولة، بل كانت هناك "قرابين فكرية وروحية". الصورة التي تشبه الواي فاي قد تمثل رمزًا لطلب الحكمة أو البركة أو الإلهام من إيزيس. فهي أشبه برسالة أو إشارة روحية مرسلة من المعبد نحو السماء، بهدف الاتصال بالقوى العليا. ** رموز داعمة: صدور العجل والريش كأدوات رمزية إلى جانب هذا الرمز اللافت، تظهر في النقوش عناصر مثل "صدور العجل" و"الريش" والتي كانت تستخدم كقرابين مقدسة: صدور العجل: تمثل جزءًا من القرابين الحيوانية المقدسة، وتُقدم في طقوس معينة نابعة من الاحترام والتقديس. الريش: يرمز إلى النقاء والسمو، وكان يُستخدم في تزيين المعابد وتقديمه للإلهة كرمز للارتقاء الروحي والطهارة. ** معبد إدفو و"بيت النصوص" مكتبة الأسرار المقدسة من أبرز ما يميز معبد إدفو وجود ما يُعرف ب"بيت النصوص"، وهو غرفة صغيرة محفوظة خلف الحرم الرئيسي، تحتوي على نقوش دقيقة توثق طقوس تقديم القرابين، وتصنيع الزيوت المقدسة، وتفاصيل يومية تخص الطقوس الدينية، بل وتفاصيل معمارية تخص المعبد نفسه. بعض الباحثين وصف هذا المكان بأنه أشبه ب"المكتبة المقدسة"، التي تضم أسرارًا روحية وعلمية لم تُنقل لعامة الناس. ويعتقد بعض الباحثين في "التيارات البديلة" أن النقوش في هذا البيت قد تتضمن إشارات إلى تكنولوجيا متقدمة أو علوم روحية فقدناها، مستندين إلى أشكال غامضة في النقوش. غير أن هذا الطرح يُقابل بالرفض من قبل أغلب علماء الآثار، الذين يؤكدون أن الرموز الدينية والروحانية ليست دليلًا على تكنولوجيا مفقودة، بل تعبير عن فلسفة متكاملة تخص الحياة والموت والعالم الآخر. ** "بين العلم والخيال" كيف نُفسر الرموز القديمة دون إسقاطات حديثة؟ يُجمع الباحثون في علم المصريات أن إسقاط مفاهيم حديثة على حضارات قديمة دون دراسة سياقها التاريخي هو خطأ منهجي شائع. فكما لا يمكن اعتبار العين على جدران المعابد دلالة على كاميرا مراقبة، فإن الخطوط المنحنية ليست بالضرورة موجات تكنولوجية. ومع ذلك، فإن هذه المقارنات تفتح بابًا لفهم مدى تطور عقلية المصري القديم، وقدرته على التعبير المجازي عن المفاهيم غير الملموسة. ** تأثير مواقع التواصل الاجتماعي في خلق الأساطير المعاصرة وساهمت مواقع التواصل الاجتماعي بشكل كبير في تضخيم فكرة وجود "رمز الواي فاي" في معبد إدفو، من خلال تداول الصور دون تدقيق علمي، وهو ما خلق حالة من التشويق والغموض المصطنع. وتحول الأمر إلى مادة للترفيه والسخرية أحيانًا، وإلى "نظرية مؤامرة" في أحيان أخرى، مع ربطها بعلوم مفقودة أو زيارات لحضارات فضائية قديمة. وهذه الظاهرة تُعرف في علم الثقافة ب"الأساطير المعاصرة" أو "الأساطير الرقمية"، حيث يُعاد تأويل الرموز القديمة بما يتماشى مع ثقافة العصر الحديث، مما يطمس السياق الحقيقي ويصنع واقعًا موازيًا يستند إلى الخيال لا إلى الدليل. ** هل استخدم المصريون القدماء تقنيات متقدمة؟ رغم رفض العلماء لفكرة التكنولوجيا المتقدمة في مصر القديمة، فإن هناك أدلة على تطور علمي ملحوظ لدى المصريين، خاصة في مجالات الطب والهندسة وعلم الفلك. فقد شيدوا معابد دقيقة في محاذاة مع النجوم، واستخدموا أدوات متقدمة في البناء والنحت، وبرعوا في الطب والتشريح، وهو ما دفع البعض للتساؤل: هل كانت لديهم معرفة روحية أو علمية متقدمة لكنها ضاعت بمرور الزمن؟ ويظل هذا السؤال مفتوحًا للنقاش، لكنه لا يعني بالضرورة وجود "تكنولوجيا واي فاي" أو ما يشابهها. ** الدعوة إلى دراسة النقوش بعيون علمية لا خرافية ومن المهم عند دراسة المعابد والنقوش المصرية أن نحترم خصوصية اللغة الرمزية والفلسفية التي استخدمها القدماء، وألا نقع في فخ المقارنات السطحية التي تبهر العين لكنها تخدع العقل. وقد دعت عدة مؤسسات أثرية وعلماء مختصين إلى تعزيز الثقافة التاريخية لدى الجمهور، والتشجيع على زيارة المعابد واستكشافها من منظور علمي يقدر التراث ويحترم العقل. ** بين الحقيقة والخيال — ماذا يخبرنا نقش "الواي فاي" في إدفو؟ فيمكن القول إن ما يُعرف ب"رمز الواي فاي" على جدران معبد إدفو هو صورة بصرية تشبه المعاصر لكنها في جوهرها جزء من منظومة رمزية روحية متكاملة. ورغم التشابه الشكلي، فإن الفهم العلمي والتاريخي يؤكد أن النقوش تعبر عن مفاهيم دينية تتعلق بالطاقة الإلهية أو الصوت أو الانبعاث، لا عن إشارات الإنترنت! ومع ذلك، فإن هذه القصة تكشف عن أمر مهم: قوة الصورة في صناعة المعنى، وسحر المعابد المصرية الذي ما زال يثير الخيال ويحفز الأسئلة. إن معبد إدفو ليس فقط شاهدًا على عبقرية المعمار، بل هو سجل روحي وفلسفي لحضارة لم تكف عن إدهاشنا، وربما هذا هو "الواي فاي الحقيقي" — الاتصال المستمر بين الماضي والحاضر، بين الإنسان والكون. إن الرمز المشابه للواي فاي في معبد فيلة ليس مجرد صدفة بصرية، بل هو تعبير رمزي عن رغبة الإنسان القديمة في بناء جسور تواصل بين عالمه الأرضي والعالم السماوي. وبينما نعتمد اليوم على تكنولوجيا الشبكات اللاسلكية للاتصال، كان المصري القديم يستخدم الرموز والقرابين والطقوس لتحقيق الاتصال الروحي. وفي النهاية، هذه الصورة تذكرنا بأن الحاجة الإنسانية للتواصل سواءً مع الآلهة أو مع بعضنا البعض تظل ثابتة، وإن اختلفت أدواتها.