بدرجاته الملونة يقبع سلم كوم الدكة فى الإسكندرية كآلة زمن تنقلك صعودًا إلى حوارى شعبية ومنازل عتيقة كأنك رجعت إلى أربعينيات القرن الماضي، أما إذا قررت نزوله ستجد نفسك بين الفيلات والقصور والعقارات ذات الطراز المعمارى المُميز بشارع فؤاد والحى اللاتينى الملكي. حى كوم الدكة الشعبى يقع على ربوة عالية ترتفع عن الشوارع المحيطة بها بنحو 60 مترًا، تحتها كنوز لا حصر لها من الآثار التى ترجع إلى مختلف العصور الفرعونية واليونانية والرومانية وقبور ملكية قد يكون من بينها: مقبرة الإسكندر الأكبر، كما تشير الدراسات. إن لم تكن من أهل كوم الدكة وقادتك قدماك إلى هناك ستشعر أنك تائه أو ضائع ، فشوارعها وحواريها الضيقة تشبه المتاهة متشابكة لا أول لها ولا آخر، كل شارع منها يقودك إلى اتجاه مختلف فى مدينة الإسكندر الأكبر، الميناء الشرقى والبحر، محطة مصر، شارع فؤاد، الحى اللاتيني، صفية زغلول، وغيرها. مع قرب نهاية الشتاء وبدء نوة «الشمس الكبيرة» الممطرة عام 1892، وضعت الست «ملوك بنت عيد» مولودها فى المنزل رقم 112 بحارة البوابة أعلى هضبة كوم الدكة، وتلقى بعدها «درويش البحر» أبو «فريدة وستوتة وزينب» التهانى من شيخ الحارة وجيرانه، بقدوم الولد الذى أسماه سيد. جرافيتى وصور سيد درويش تملأ الجدران فى كل مكان بكوم الدكة، كأنه غادرها قبل بضع سنين وليس أكثر من قرن من الزمان، فهنا «بورصة سيد درويش»- تعنى مقهى بلغة أهل إسكندرية- تأسست عام 1912، لصاحبها الحاج عبد المنعم رجب وأولاده، وتلك لافتة معلقة على أكبر شوارع المنطقة كُتب عليها «شارع سيد درويش.. كوم الدكة سابقًا»، لتبقى كوم الدكة صامدة فى وجه الحداثة على العهد والذكرى مع سيد درويش. «هنا يمين كده بيت سيد درويش.. والمنطقة دى اللى اتولد وعاش فيها».. يشير الحاج أحمد سعيد، من أهالى كوم الدكة، فى حديثه ل «الأخبار» إلى منزل صغير جدًا يكاد يكون غرفة واحدة دون سقف بباب خشبى متهالك. ويضيف الرجل الذى تجاوز عمره الستين، قائلاً: « الشارع اللى إحنا فيه ده اسمه شارع سيد درويش.. يتقاطع معه باقى شوارع كوم الدكة زى سيدى رستم وسيدى سرور». «كلنا سيد درويش.. كلنا سيد درويش» رددها الحاج أحمد مرتين، مختتمًا حديثه بقوله: «الناس هنا بتغنى لسيد درويش .. ومرتبطين به .. وبنحبه.. وعاصرنا ابنه البحر درويش». وبمجرد ذكر اسم سيد درويش، سارع الحاج سامى غنيم، قائلاً: « الشيخ سيد درويش ابن منطقتنا وابن حتتنا إزاى ننسوه.. كوم الدكة عايشة على ذكريات سيد درويش»، مشيرًا إلى أنهم يقيمون كل عام حفلاً فى ذكرى ميلاده باسم «مهرجان زورونى كل سنة مرة». «إحنا فى كل حتة بنقول إحنا من حى كوم الدكة ولاد سيد درويش .. بنفتخر أنه ابن الحى بتاعنا.. آه كوم الدكة بقى نصها أغراب لكن الناس القديمة عندهم سيد درويش حاجة تانية»، هكذا أنهى الحاج سامى حديثه ل «الأخبار». يقول أحمد عبد الفتاح، مستشار المجلس الأعلى للآثار الأسبق: «إن سيرة حياة سيد درويش وعبقريته وأعماله تُعد تراثًا مصريًا قائمًا بذاته ستظل باقية إلى الأبد، وأن أعماله كانت الإرهاصات الأولى لثورة الشعب المصرى عام 1919، فضلاً عن قيامه بثورة عارمة على الركود الفنى والفكرى الذى كان يسود عصره». كان الجميع منهمكًا فى الاستعداد للاحتفال الكبير باستقبال الزعيم الوطنى «سعد زغلول»، والذى مقررًا أن يصل بعد يومين إلى ميناء الإسكندرية قادمًا من منفاه الثانى بجزيرة سيشيل. سافر سيد درويش من القاهرة إلى الإسكندرية على عجلٍ، حاملًا معه «نشيد بلادي» الذى ألَّفه محمد يونس القاضي، ولحّنه هو احتفالًا بعودة زعيم الأمة من المنفى. لم يمهل القدر فنان الشعب، لاستقبال زعيمه، ليرحل خالد الذكر بشكل مفاجئ فى ريعان شبابه، فى عمر ال 31 عامًا، بمجرد وصوله للإسكندرية، عام 1923، تاركًا كنوزاً فنية لا تنضب أبدًا. أبى سيد دوريش أن يترك كوم الدكة حتى فى الممات، «إذ دُفن على مقربة منها فى مدفن بمقابر المنارة يعلوه شاهدان أحدهما على شكل «طربوش» والآخر يبدو ك «عمامة» كُتب عليه يا زائرى لا تنسنى من دعوة لى صالحة وارفع يدك إلى السماء واقرأ لروحى الفاتحة.. توفى المرحوم سيد البحر درويش فى 4 صفر سنة 1342ه». ويقول الدكتور حسن البحر درويش، حفيد سيد درويش: إن إسكندرية وسيد درويش جزء واحد لا ينفصل، قائلا: « كان عاشقاً للإسكندرية.. الشيخ سيد درويش خالد الذكر مش بس عند عائلته لا عند الشعب كله».