دون شك يأتي الأسلوب والمنهج الفني الذي تتم به معالجة قضيته المطروحة والشائكة على شاشة التليفزيون أهم عوامل نجاح مسلسل "لام شمسية"، اختار صانعوه الذين يعون تماما ثقافة المجتمع أن لا يقتربوا من منطقة تخدش حياء المشاهد، بل والاستحواذ شيئا فشيئا على اهتمامه وإشراكه معهم في الاشتباك قبل فضه، وأيضا ألا يجرحوا من يجسدون القصة على الشاشة.. فقط انحاز سيناريو مريم نعوم والمخرج كريم شناوي لتلك الشعرة الفنية التي تلهمنا بالصورة والحوار المغزول بخيط حرير، وتدعونا للتفكير لما وراءها. المسلسل يخطفك منذ اللحظة الأولى، "نيللي - أمينة خليل" تضعنا كابوس حبسها، كأنه تمهيد لكابوس حقيقي سوف تعيشه ونعيشه معها، في المشهد التالي تستعد الأسرة للاحتفال بعيد ميلاد الطفل "يوسف" المتقلب المزاج، وفجأة نجد "نيللي" عقب مشاهدتها لخيالات من وراء الزجاج توحي لها بأن "وسام - محمد شاهين" يتحرش ب"يوسف"، تصرخ من هول الواقعة، وهنا يقوم الأب "طارق - أحمد صلاح السعدني" بضرب صديق عمره على رأسه ويفقده الوعي. قدم المخرج المشهد الأزمة بنعومة بفضل أجواء للتصوير والإضاءة والموسيقى التصويرية التي لعبت دورا رئيسيا في حالة التناغم الدرامي. شيئا فشيئا يسير السيناريو وفق منهج مدروس معتمدا على مواجهات ثنائية أبدع فيها نجوم العمل بأداء عميق يجعلنا نعيش واقع تلك اللحظة ونستقبل مصيرها بشغف وترقب، وكأن المأزق الحقيقي هو فض الاستسلام الظاهري لفض الاشتباك بتنازل "نيللي" عن محضر التحرش مقابل تنازل "وسام" عن محضر الضرب، وكأن المخرج والمؤلفة أرادوا أن نهدأ قليلا لنفكر فيما حدث بعقل وهو ما بدا في حالات الاكتشاف التالية لحقيقة الواقعة. تتبعنا كيف بدت الشروخ تظهر في العلاقات بين الثنائي "أحمد - صلاح السعدني" وأمينة خليل، وبين يسرا اللوزي ومحمد شاهين، الطفل "يوسف" و"وسام" وتلك العلاقة الأخرى التي تتكشف خفاياها مع الوقت دون نفي للحدث الأزمة. أعتقد أن هناك مشاهد كثيرة قوية شكلت عنصر الإبهار والإنجذاب بفضل تميز الأداء، وحنكة فنانين تمكنوا من لفت أنظار المشاهدين لعالمها مع تصاعد الأحداث المثيرة، على إيقاع متوازن وثابت استحوذ على الاهتمام بشكل واسع، وأيضا حنكة ومهارة كتابة السيناريو والحوار وواقعيته وصدقه، ونص مدروس وممنهج غير بعيد عن المنطق. نتذكر مشهد بكاء الطفل المدهش بعد دخول "وسام" في كومة وكأنه يلقي الكثير من الإجابات التائهة، ومشهد إلقاءه النشيد الرمزي في المدرسة وتردده متأثرا وهو يقول: "لام شمسية ولام قمرية.. واحدة نقولها وواحدة خفية"، مشهد خجل "طارق - أحمد صلاح السعدني" وهو يتكلم عن الواقعة بعيون زائغة، ولحظة إستجواب وكيل النيابة له، وأيضا في لحظة إعترافه بالذنب ل"نيللي" بخيانته لها، أداء أمينة خليل عندما سألها وكيل النيابة: "هل شاهدت واقعة التحرش"، قمة المعركة النفسية بداخلها، عبرت عنها بقدرة فائقة، أيضا مشاهد كوابيسها المستمرة في الظهور، لكن هذه المرة تتذكر أنها تعرضت للتحرش في طفولتها، ومع مرور الزمن، نسيت ما حدث لها، لكن تلك التجربة تركت آثارها على علاقاتها وحياتها الزوجية وشكلت نقطة فاصلة في نهاية الأحداث. أداء محمد شاهين في مشهد معرفته بالاتهام والواقعة، إبداع كبير في التلون والدهشة والإنكار، فهو متورط بالفعل في عملية التحرش، وصمت المجني عليه وراءه عملية الحب الخادعة للطفل، "يوسف" لم يستطع أن يكشفها مبكرا، والواقع أن شخصية "يوسف" التي يجسّدها الطفل علي البيلي، كانت بطولة في حد ذاتها رغم سنه، أداء وتعبيرات جسدت عمق العمل، وهو يجسد ذلك الدور المركب، ودور مَن يتعرَّض للتحرُّش من صديق والده المقرَّب، ويستحق ثناء كبير، كيف اقتنع بتصوير الشخصية وكيف جسدها بتوتراها وبراءتها. أنه حقا موهبة مذهلة، لأن الدور صعب وشائك، وربما يكون من أصعب أدوار الأطفال في الدراما التليفزيونية المصرية. المسلسل أثبت أنَّ أكثر الأخطاء والمشكلات التي نعيشها، فلم يعد هناك "قضايا مسكوت عنها" يمكن طرحها دراميا، لكن المهم كيف نطرحها، هنا نرفع القبعة لذلك الأداء والنهج وأعتقد أنه يمثل علامة فارقة في مشوار مخرجه كريم شناوي، فصنَّاع المسلسل قدّموا القضية بذكاء وسلاسة وإبداع فنّي وتشويق حتى الآن، بجانب حرصهم على الإستعانة بلجانٍ متخصّصة أشرفت على التنفيذ، ومنحتنا ثقة أكثر بأنَّ الدراما قادرة على خَرْق جميع المسائل الشائكة التي يعيشها المجتمع. سوف يعيش معنا كثيرا "لام شمسية"، ليس فقط بسبب الموضوع الشائك الذي يطرحه العمل، لكن أيضا بسبب تميز العناصر الفنية وتكاملها ما بين التمثيل "أمينة خليل، أحمد صلاح السعدني، يسرا اللوزي، محمد شاهين، ثراء جبيل، صفاء الطوخي، أسيل عمران"، والسيناريو والحوار متماسك وقوي بتحليله النفسي لشخصيات العمل والإخراج المتميز بالصورة المريحة للعين، والحبكة الدرامية المقدمة بشكل محكم، وعميق إضافة إلى الموسيقى التصويرية واختيار أغنية "عصفور طل من الشباك" التي أدتها المطربة نوران أبوطالب، ودمجها مع فكرة ورسالة العمل بشكل درامي.. "خبيني عندك خبيني، دخلك يا نونو" وقالت كلماتها: خبيني عندك خبيني دخلك يا نونو قلتله إنت من وين قالي من حدود السما قلتله جاي من وين قالي من بيت الجيران قلتله خايف من مين قالي من القفص هربان قلتله ريشاتك وين قالي فرفطها الزمان نزلت على خده دمعة وجناحاته متكية وإتهدى بالأرض وقال بدي إمشي وما فييّ نزلت على خده دمعة وجناحاته متكية اقرأ أيضا: «لا شمسية» في الحماية.. متى تتحول مخاوف الأم إلى عبء نفسي على الطفل؟