منى عبد الكريم لتصوراتنا عن الجنة أشكال لا تنتهى، وفى رحلة الإنسان للبحث عن الجنة يجد ملاذًا يعينه على مواجهة قسوة الحياة. وبينما يعيش البعض على أمل نهاية الرحلة باستقرار دائم ونعيم أبدى، وصل بعضهم إلى الجنة فى قلبه حيث يسكن الله ويتجلى النور. بهذه المشاعر الصوفية تقترب الفنانة التشكيلية هالة شافعى من مسطحها التشكيلى، فهى تمارس عبادة التأمل فى جمال الله ومخلوقاته فى أعمالها الفنية، وللفنانة هالة شافعى تصورات ممتدة عن الجنة، ففى الفترة الأخيرة قدمت أحد الأعمال من مجموعتها «حدائق الجنة» الموازى لمجموعة «أنهار الجنة» من خلال مشاركتها فى معرض نون وفنون المقام بجاليرى بيكاسو بالزمالك.. لتبدو اللوحة وكأنها ترجمة لتلك العلاقة التى تربط بين الأرض والسماء، فتأخذك للفكرة ببراعة، فتوظيف اللون الأخضر ينبع من الأرض الخصبة حيث الورود الحمراء المنثورة ببراعة تؤهلك نفسيا للمحبة، قبل أن تنتقل لونيا لمجموعة الزهور البنفسجية وهو لونها المفضل، إذ إن للون البنفسجى دلالات ترتبط بالروحانية، وكأنها تؤهلنا للخروج من العالم المادى إلى براح الروح حيث تسبح ورقياتها فى فضاء رحب وكأن الحرية والتجرد هى النعيم بذاته الذى ينشده الإنسان وصولا لمعية الله. حول تلك التجربة فى تصوراتها عن الجنة تقول الفنانة: تأملاتى فى مسألة الحياة بعد الموت والتصور المستمر لشكل الجنة بدأ منذ الصغر بشغف مستمر لفهم مغزى الحياة، وباندهاشى الذى لا يفتر بعجائب الكون والطبيعة، وفيما بعد بتطور علاقتى بالخالق عز وجل. ولا شك أن علاقتى الوثيقة بالطبيعة وحبى لها بدأ منذ نعومة أظفارى من خلال أسفارى واطلاعى، تلك الإبداعات التى غذت خيالى فلم تفارقنى الدهشة بجمال الكون وكماله، وأنا عاشقة للطبيعة، وأهتم بزراعة الزهور والنباتات والأشجار وأراقب الطيور وأعرفها من أصواتها، وأتأمل النجوم وأتدبر فى خلق الله، فالطبيعة زادى اليومى، نُسْبِح معاً، أكلم الأشجار وأحاول أن أفهم منطق الطير، وأنا بطبيعتى أحب الخلوة مع النفس والتأمل وأجد سعادتى حينما أكون أقرب إلى الطبيعة التى تمدنى بالطاقة والإلهام والسكون وتجعلنى فى حالة وصال مستمر مع الخالق. ومع الوقت، كانت تراودنى تصورات عن الجنة.. الورود بأشكالها المدهشة وأريجها، وشكل الطيور والأشجار والأنهار. ثم ازدادت قناعاتى أننا سنرى فى الجنة منظومة جديدة من الألوان خارج نطاق ألوان الطيف التى نعرفها فى حياتنا.. بل من خلال منظومة من حواس أخرى لا نألفها تجعل فى الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.. بدأت أفكّر فى كيفية ترجمة هذه «الحالة الصوفية التأملية» من خلال أعمالى الفنية، فأخذت أبحث عن أصول تصور الجنة فى القرآن والمراجع الدينية والفلسفية والأدبية والتاريخية والفن العالمى. وتضيف شافعى الحقيقة أن رحلة بحث مدهشة كشفت عن تصورات عدة للجنة بداية من المصرى القديم، فقد ارتبطت فكرة الجنة بالحياة بعد الموت، وتصور المصريون القدماء العالم الآخر كحقول الإيارو أو حقول القصب، وكما ورد فى التعويذة 110 من كتاب الموتى، حيث صور المصرى القديم الجنة (يارو) أو حقول الإله أوزير فى شكل أنهار ماء تجرى باللون الأزرق وبينها حقول (أوزير) وبها عيون ماء مختلفة الألوان، ويقوم المتوفى بالإبحار بحرية فى هذه الأنهار بمركب صغير. ويظهر ذلك بوضوح فى الجداريات داخل المقابر، حيث نرى المتوفى وهو يحرث الأرض أو يصطاد فى بحيرات مليئة بالطيور والأسماك، مما يعكس تصوره عن الجنة كحياة مثالية خالية من المشقة . أما فى الفن الإسلامى، وبدءًا من القرن الحادى عشر، فقد سعى المسلمون، خاصة خلال فترة الحكم المغولى فى الشرق والدولة الإسلامية فى الأندلس وبلاد فارس، على دمج رؤاهم الفلسفية ومخيلتهم الجمالية لمفهوم الفردوس فى الفنون البصرية. وبرز ذلك فى هندسة الحدائق، وفنون المنمنمات والمخطوطات، إضافة إلى النقوش والزخارف التى زينت القصور، المبانى الرسمية، والمساجد. وتذكر شافعى أن الفن التشكيلى فى الغرب كان كذلك- ولايزال- منذ عصر النهضة وحتى اليوم يعكس التغيرات فى الفهم الدينى، والثقافى، وحتى الفلسفى. ففى عصر النهضة، تأثر الفنانون بقوة بالمفاهيم المسيحية التقليدية والفكر الكلاسيكى. ليتم تصوير الجنة دائما كمكان مشرق، مليء بالسحب الذهبية، والملائكة الطائرة، والموسيقى السماوية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك لوحة ميكيل أنجلو «القيامة الأخيرة» الموجودة فى سقف كنيسة سيستين. وفى عصر الباروك والروكوكو كان تصوير الجنة أكثر درامية وثراء حيث الملائكة وحالات الاختطاف الروحى، إضافة إلى التركيز على استخدام الإضاءة والحركة الدرامية لإيصال الشعور بالسمو الإلهى مثل عمل بيتر بول روبنز «صعود العذراء» لتبدو الجنة كفضاء مليء بالنور والحياة. وفى القرن التاسع عشر، بدأ الفنانون فى تصوير الجنة من منظور أكثر ذاتية ورمزيّة، متأثرين بالأدب والفلسفة، بدلًا من المفاهيم الدينية الصارمة. فقد رسم ويليام بليك مثلاً تصورات للجنة مستوحاة من رؤاه الشخصية كما نرى فى لوحته «بوابة الفردوس» وأعتقد أن جوستاف مورو استخدم الرمزية فى تصوير الجنة كمكان أسطورى أكثر منه دينياً. أما فى القرن العشرين، ومع بداية الحداثة والسريالية، بدأت الجنة تصور بطرق أكثر تجريدية وسريالية متأثرة بالنزعة إلى التحليل النفسى كتحليلات فرويد، وكذلك بالخيال العلمى مثل أعمال مارك شاجال فى أعماله الحالمة التى تبدو الجنة كمكان ملىء بالألوان الطافية والأجواء الحالمة. ونجد كذلك أن سلفادور دالى قدم تصورات سريالية عن الفردوس مثل لوحته «الجنة الأولى»، وبالنظر إلى الفن المعاصر اليوم، نجد أن فكرة الجنة تحولت إلى مفاهيم رقمية، وفنية تجريدية، حيث أصبح الفنانون يعيدون تفسير الجنة بطرق مختلفة، أحيانًا بعيدة عن التصور الدينى التقليدى. ومن ضمن هؤلاء الفنان جيمس تيريل الذى استخدم التجهيز فى فراغ بتوظيف الضوء والمساحات لخلق إحساس بالسمو كما لو أن المشاهد فى فضاء سماوى. وهناك أيضاً تاكاشى موراكامى الذى دمج الفن الشعبى اليابانى مع تصورات فانتازية للجنة تتداخل فيها التكنولوجيا والطبيعة. وجدت هالة خلال رحلة البحث هذا ما تصفه بثراء مدهش ذلك أنه: «تحول تصوير الجنة فى الفن التشكيلى عبر العصور من كونه مساحة دينية محددة إلى فضاء يتعدّد تأويله بين الفلسفى، والنفسى، والرمزى. ولكننى أرى أن أبلغ وأجمل وأدق تصوير للجنة ما ورد فى القرآن والحديث الشريف. فالجنة لا مثيل لها، لها ثمانية أبواب، وفيها درجات، وتجرى من تحتها أنهار وأشهرها الكوثر وفيها أنهار من اللبن والعسل والخمر، وفيها عيون كالتسنيم والكافور، وأشجار مثل سدرة المنتهى وشجرة طوبى التى ورد ذكرها فى حديث نبوى شريف، وقصور وخيام». تناولت الفنانة هالة شافعى الجنة فى أكثر من عمل بعضها جاء من وحى خيالها، أما البعض الآخر فباستلهام من آيات قرآنية بعينها، ففى أحد أعمالها نراها تترجم الآية الكريمة «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِى وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصْفّىً وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ». بصورة مجازية وهو العمل الذى عرض فى 2020، كما أن لها عملاً آخر مستلهماً من الآية الكريمة «قطوفها دانية»، والذى عرض من خلال المعرض العام عام 2024 ، بخلاف لوحاتها التى تقدم صياغات لتصوراتها عن أشجار الجنة ونخيلها وأنهارها. والحقيقة أن معارض الفنانة هالة شافعى جميعها لها علاقة وثيقة بالروحانيات وهو ما اتضح من قبل فى معرضها «بنفسجي» الذى أقيم عام 2015 فى قاعة الباب سليم، والذى جاء كترجمة بصرية لتأملاتها الروحية فى ملكوت الخالق، وقد تبلور المشروع أكثر عامى 2018-2019 من خلال استمرار قراءتها المتعمقة فى الدين والقرآن والفلسفة والشعر، والذى أسفر عن معرض «رسائل كونية» الذى أقيم فى جاليرى النيل عام 2020. أما ارتباطها بالطبيعة وجمالها فكان الملهم وراء معرضها «لى بستان». وعلى مدار رحلتها الفنية تميزت هالة شافعى بقدرتها الاستثنائية على التركيز على أدق التفاصيل فى أعمالها الفنية التى برعت فيها بتوظيف خامة الباستيل لتصبح واحدة من الأعلام فى هذا المجال داخل مصر وخارجها، ولكل لوحة شخصية مستقلة تجسد براعتها فى وصولها لمعادلة تفرد كل عمل رغم اعتمادها فى كثير من لوحاتها على التجريد الذى يتطلب براعة شديدة، فعلى الرغم من مساحة الحرية التى يمارسها الفنان فى التعبير عن مكنون نفسه إلا أن الصعوبة تكمن فى اعتماد الفنان على الخطوط والألوان والملامس دون غيرها لترجمة المعنى.