هذا اليوم له قداسة خاصة عندي. فهو عيد الأم، فأمي المرحومة مبروكة إسماعيل حسانين حمادة بقي من أبنائها عبد الفتاح يوسف القُعيِّد المقيم في مركز إيتاي البارود محافظة البحيرة، وهو المركز التي تتبعه قريتي الضهرية. أما شقيقتىَّ عظمة وإسمها في ورق الحكومة عطيات فتعيش في جزيرة الضهرية مع زوجها وأسرتها، وأختي الأخرى سعيدة تحيا معها في نفس المكان بالقُرب من الجسر العالي الذي أقامه أجدادنا عندما كان فيضان النيل يُهدِّد قريتنا. ومازال عالياً رغم فيضانات النيل التي نذكرها في حكاياتنا، والتي تملأ ذكرياتنا كانت تأتي قبل إقامة المشروع العظيم سد مصر العالي الذي حلُم به وأسسه وبناه الزعيم جمال عبد الناصر مؤسس مصر الحديثة. للنيل حكاياتٌ كثيرة كتبتُها في قصصي ورواياتي. لكن فيضان النيل تم التحكُم فيه بعد إنشاء السد العالي الذى بدأ بناءه 1960 بتكلفة قدرها مليار دولار، ساهم بثلثها الاتحاد السوفييتي، وشارك في بناء السد 400 خبير سوفييتي وآلاف المصريين، وأكمل بناؤث في 1968. ثُبِّتَ آخر 12 مولد كهربائي 1970 وافتتح السد رسمياً عام 1971. أعود لعائلتي لأنني أريد الكتابة عن أمي وأتوقف أمامها طويلاً، فهي تزورني حتى في أحلام اليقظة. وما زالت رنَّة صوتها عالقة بخيالي، كأنها مازالت تحيا. لقد أنجبتنا 7 من الأشقاء، رحل ثلاثة منهم: رجب، فتحي، وجابر. وكانت أمي نبع الحنان والرحمة في الدنيا كلها. وإن كنتُ لا أذكر هذه العبارة البليغة العظيمة التي لا تفارق خيالي لحظة واحدة: - لأن الله أراد أن تصل رحمته لكل الناس، خلق الأمهات. ربما قرأتها لأول مرة في كتابات عبد الحليم عبد الله أديب مصر العظيم إبن البحيرة. حيث وُلِد ودُفِن في قرية كفر بولين مركز كوم حمادة محافظة البحيرة. وهو أول أديب أراه بعيني عندما أقام مدير قصر ثقافة دمنهور مصطفى البسيوني ندوة له. وكنتُ في هذا اليوم قد ذهبت إلى القصر لأُقدِّم كتابي الأول ليُنشر في مشروع ثقافي كان موجود آنذاك بعنوان الكتاب الأول تُصدِره وتتولاه وزارة الثقافة. ولأن القاهرة التي كنا نسميها مصر كانت بعيدة حتى في الخيال. ذهبت إلى قصر ثقافة دمنهور وسلَّمت مخطوطة الكتاب للمرحوم مصطفى البسيوني ليُرسله إلى القاهرة فيُنشر ضمن مشروع الكتاب الأول. وفُقِد الكتاب، لكن معناه مازال باقياً في ذاكرتي للآن. وأحيا على أمل العثور عليه، فيُقدِّم لي صورة من شبابي الذي كان، وكيف تجرأت على الكتابة في سنواتي الأولى ووصل بي إلى حافة الجنون أنني أنجزت كتاباً وذهبت به لنشره، ولكنه لم يُنشر. لم يكن أحد يعرفني، ولم تكن في دمنهور في ذلك الوقت وربما حتى الآن إمكانيات لنشر الكُتب، فأبناء البلد ينشرون في القاهرة، ويسافرون القاهرة خصيصاً من أجل هذا. وعندما أرى كامل مصطفى رحومة ويُعطينى أعماله الأدبية أكتشف أنها نُشرت إما في القاهرة أو الإسكندرية. رغم أنه يعيش في دمنهور آناء الليل وأطراف النهار. كانت أمي – يرحمها الله رحمة واسعة – حكاءة، ورغم أنها عاشت وماتت لا تقرأ ولا تكتُب، إلا أنني بمجرد ما أدركت فك الخط وعرفت القراءة في كُتّاب الشيخ بخاطره قبل ذهابي إلى مدرسة عسران عبد الكريم الابتدائية، وأنصاري سمك الإعدادية. وهناك تعلمت، ولولاهما ما تعلمت. وفضلهما علىَّ من الأرض للسماء. وعندما أذهب إلى القرية ونادراً ما أذهب أقرأ لهما الفاتحة عند مروري بالقُرب من المكانين اللذين دُفنا فيهما. تلك عادة ريفية قديمة مازلت ألتزم بها. أمي هي أول من وضعت يدها في جيبها وكانت تُسميها سيَّالتها لتُخرِج ثمن الجريدة وتدفعه لمن يمر علينا ونحن نجلس أمام بيوتنا ومعه صحف الصباح. وكان هذا تالياً لطفولتي في أربعينيات القرن الماضى، ربما مع قيام ثورة يوليو العظيمة والتغييرات التى أحدثتها في قريتنا. وكان أهم هذه التغييرات وصول الجريدة. ولا أستطيع أن أنسى سعادة أمي التي تبدو على وجهها الطيب والبرئ عندما تُخرج ثمن الجريدة لتُعطيه لمن يبيع الجرائد في قريتنا. في رقبتي ما سأكتُبه عنها، وكل عام وكل الأمهات سواء في بر مصر أو في أي مكانٍ من العالم بخير. فلولاهن ما استمرت الحياة. [email protected]