لنعود مع المسحراتى وقد اشترى كل منا ما كلفته به أمه للسحور: الفول من عربة بشاى بين جامع خالد بن الوليد وكنيسة جورجيوس تنازعتنى السبل، وتشتتت الأفكار، لاختيار سطور هذه اليوميات حائراً بين عشرات الأحداث الساخنة حولنا، ونحن نعايش أجواء هذا الشهر الكريم. لكنَّ فيديو قصيراً على الشبكة العنكبوتية حسم حيرتى، وقاد كلماتى بلا ترويض، فقد أسلمت قيادها للوحة المفاتيح. الفيديو كان لقسيس مصرى يحمل علبة تمر يوزعها على المارة من أشقائه المصريين المسلمين قبيل أذان المغرب بلحظات، مغلفة بود وابتسامة مصرية خالصة.. دقيقتان هما عمر الفيديو، كانتا مداداً لهذه السطور من الذكريات عن وطن امتزجت به عواطفى، وترسخت فيه جذور ارتباطى بلا أدنى تفكير أو استعداد أو استجابة لمغريات شرق النفط، أو غرب الديمقراطية، ولا شمال الغِنَى، أو جنوب المغامرة، إنما هى واسطة عقد الأرض: مصر. الأربعاء: رمضان شبراوى منذ استقر بى المقام بالقاهرة عام 1979، كان رمضان يعود شيئاً فشيئاً من قلب الصيف إلى فصل الربيع، وكانت المواسم الدراسية فى تلك الفترة تنتهى تماماً قبيل بداية رمضان، حتى كان العام 1983، ووقع رمضان فى فترة امتحانات نهاية العام بدراستى الجامعية بدار العلوم، وقضينا الشهر كله تقريباً بين حرارة الجو، وسخونة الامتحانات، وريقنا جاف، وعرقنا لا يجف فى قاعات الامتحان من الثانية عشرة ظهراً حتى الثالثة عصراً، ولم يكن هناك لا تكييف ولا يحزنون، اللهم إلا مراوح فى القاعات لا تطفئ سخونة الجو، ولا لهيب الأسئلة. أربعة أعوام إذاً قضيتها مع رمضان وشباب شارع الحصرى، جيرانى بشبرا، ونحن خلو من المذاكرة والامتحانات، لا يشغلنا فى رمضان سوى الصيام والانتظام فى صلوات الجماعة بالمسجد، ثم الاستمتاع برمضان ما بعد التراويح وحتى قرابة السحور، لنعود مع المسحراتى وقد اشترى كل منا ما كلفته به أمه للسحور: الفول من عربة بشاى بين جامع خالد بن الوليد وكنيسة جورجيوس، والعيش من فرن المعلم عبد الجليل، لنتسحر، وننطلق معاً لصلاة الفجر، وننصت للدرس.. الكهرباء التى كانت تضىء الشوارع، لم تعرف أيامها أزمات، فكنا نصل أحبال الإضاءة بالشارع العمومى والجانبيات منه، فينقلب ليل الشارع نهاراً مضيئاً ترفرف فيه أوراق الزينة، وتتماوج الفوانيس الضخمة مع نسمات الصيف الليلية، أما على الأرض، فكان هناك ترتيب آخر يوازى ما يجرى بين البلكونات، الجير الأبيض يرسم ملامح ملعب لكرة القدم فى شارع الحصرى، ومكانان لمرميين مثل مرمى كرة اليد، يغلقان نهاية الملعب المرسوم بالجير، وتجمعات من الصبية والشباب والأهالى بالبلكونات، وأكواب الشاى، أو الفاكهة، أو اللب للقزقزة، والفرجة على الشارع وما يجرى فيه.. ولم يكن يجرى فى الشارع سوى الدورة الرمضانية التى اعتدنا تنظيمها بالاتفاق مع بقية رفاقنا بالشارع الرئيسى والجانبيات المتفرعة منه، فريقى كنت حارس مرماه، والبقية من الرفاق: محمود شكوكو، ومحمود عمر، ومجدى عليما، وحميد مخيمر، وميمى الفرماوى، وناجى عصفورة جارنا المسيحى وعضو الفريق المستمر بقصر قامته وخفة دمه التى أكسبته لقب عصفورة. كل أولئك الرفاق تبعثروا طبعاً بفعل الزمن، ولم يبق لنا سوى لقاءات متباعدة تحكمها الصدفة القدرية، أو سماع خبر عن فلان منا عن طريق فلان آخر، ما أقسى تصرفات الأيام بأهلها. كانت صلاة التراويح بمسجد خالد بن الوليد هى محطة التجمع، وبعدها الانطلاق لليلة رمضانية حافلة بكل أنواع النشاط البدنى فى لعب الكرة، أو الترويحى بتمشية جماعية على الجسر، أو شارع شبرا العتيق وشوارعه الجانبية بمن فيها من أهل قريتى نكلا العنب المقيمين فى ذلك المربع، وكان ذلك المربع به العديد من أهل نكلا ممن أقاموا به وسكنوه، وتوالى مجىء غيرهم بمساعدة من سبقوهم، وهيأوا لهم أسباب الاستقرار من عمل أو سكن، كان مظهراً جميلاً للتكافل، ومد يد العون للأهل والمعارف من أهل القرية، حتى إنهم أسسوا جمعية عند شارع الورشة المتفرع من شارع شبرا الذى يقطن به وما يزال بعض من أهل القرية النازحين للعاصمة، والمستقر بها أولادهم، وكانت جمعية نشطة باشتراك سنوى، أسسها الداعية الراحل الشيخ محمد الغزالى، ابن نكلا العنب، رحمه الله، ومن أبرز ما قامت به الجمعية خدمة للأهالى شراء مدافن خاصة بالجمعية فى منطقة الإمام الشافعى، بجوار مدخل مدافن أسرة محمد على المالكة، وكم من مرة ذهبنا إلى هناك لدفن أحد المتوفين، أو زيارة أحد المدفونين هناك.. والحقيقة كانت مشاوير الإمام الشافعى - رغم طبيعتها الحزينة - تحمل نوعاً من التغيير للنفس، بالعظة مرة، وبمشاهدة مدافن الأسرة المالكة كنوع من الفسحة الأثرية، ففيها رفات العائلة المالكة من أبناء محمد على، ومبنية على طراز معمارى إسلامى، وتسمى مقابر العائلة المالكة، أو حوش الباشا، والتجول داخلها نوع من المتعة البصرية ممزوجة برهبة الموت الذى يحوم حول المكان، ولايصبغه بصبغة الحزن إزاء الزخارف والآيات القرآنية المطلية بماء الذهب، والمكتوبة بخطوط رائعة، ليشكل المجموع فى النهاية لوحة جذابة خليطاً من المتعة والرهبة والحزن والراحة والقتامة والزركشة. الخميس: حتى السحور ما يكاد شيخ مسجد خالد بن الوليد ينتهى من آخر ركعة، ويسلم من صلاة التراويح، حتى يذهب كل منا إلى منزله، فيغير ملابس الصلاة، ونرتدى ملابس اللعب، الكل يلبس كاوتش باتا القماشى الشهير قبل أن تظهر الكوتشيات، ومعه الشورت والفانلة أو بدونهما بأى بنطلون وفانلة، واختلف معهم فى الفانلة ذات الأكمام باعتبارى حارس المرمى. لم يكن البرنامج يقتصر يومياً على مباراة ضمن الدورة الرمضانية، فتلك المباراة كانت بداية البرنامج كل ليلة، وخبط ورزع وطبل وزمر، وكل فريق بمشجعيه من البيت أو الحارة أو الشارع من الجيل التالى لأعضاء الفريق، سواء كانوا أشقاء لهم، أم جيراناً ملاصقين. الملعب بعرض الشارع، والحكم بصفارة عالية الصوت، والمتفرجون على الرصيفين، والمتابعون من البلكونات أحسن حظاً من المشاهدين فى الملعب، فالكرة الإسفنجية كثيراً ما كانت تخرج من قدم لاعب أشول، وقد سددها بسن القدم مغلولاً من الحارس الذى يمنع تصويباته، وتكون من نصيب أحد المتفرجين، يتلقاها فى فخذه أو جنبه أو صدره، ويتحمل الألم ثم يتابع المباراة.. وما إن ينتهى النزال، وينفض الفريقان عن أرض الملعب، ليلعب فريقان غيرهما، حتى يخرجا لمتابعة المباراة التالية لفريقين آخرين، وكانت كرة القدم بالنسبة لنا وسيلة للتعارف والتواد، رغم اختلاف انتماءاتنا التشجيعية بين الأهلى والزمالك، والبعض كان يهوى الإسماعيلى أو المحلة أو الترسانة أوالاتحاد، لكننى لا أتذكر أن مشاجرة ثارت بيننا بسبب اختلافنا، وعلى الأقل كان كل فريق منا يشجع نادياً معيناً، وقد يشذ واحد منا، المحصلة كانت مناكفات وقفشات بقافية أو بدون قافية، لكنها كانت لذيذة دون شجار أو سباب أو غلظة فى الألفاظ، ولم يصل اختلافنا أو خلافنا لما نشهده حالياً من الملاسنات اللفظية والألفاظ البذيئة، التى يرددها ويتبادلها المشجعون على مواقع التواصل الاجتماعى التى باتت داعية للتفاصل المجتمعى!. نعم، كان الأهالى يعانون مع رغبتنا الدائمة فى اللعب إلى ساعات متأخرة حتى قرب السحور، ومرور المسحراتى بطبلته، بينما نكون نحن بطريقنا للمنازل بصحبة المسحراتى وطبلته، وإخوتنا الصغار يطلبون منه أن يذكرهم بالاسم. ويأوى كل منا لشقة سكناه، أو الغرفة التى يقطنها أهله بين غرف شقة مشتركة، يتقاسمها أكثر من جار. السبت: هى كلها حلوة! نعم، ما أجمل ما كانت كلمات وزير الطاقة السعودي، الأمير عبد العزيز بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، عن مصر والمصريين، فى افتتاح «مؤتمر مصر الدولى للطاقة إيجبس 2025»، موجهاً تحية للشعب المصري، ووصفه ب «حبيب الجميع». قائلاً: «ألف تحية للناس الحقيقية، والناس العشرية، وأصحاب أحلى نفسية»، مضيفاً: «مصر ليس فقط فيها حاجة حلوة، دى كلها حاجة حلوة». إن جمال مثل تلك الكلمات ينبع من حملها لعاطفة جياشة تغلب صاحبها فتلبسه ثوب التفاعل التلقائى، فنشعر به جميعاً نبتاً مصرياً صادقاً، فى تلك اللحظة يمتنع عنه الرياء، وينطق بلسان أعماقه؛ فذلك دأب كل من عرف مصر وأهلها، ووصلت محبتهم إلى أغوار قلبه.