فما نسمعه من فنون فى صعيد مصر يختلف عما نراه ونسمعه فى مطروح أو سيناء أو الدلتا أو النوبة أو أهل قناة السويس كيف أبتكر ما لم أتخيله؟ وكيف أتخيل ما لم أره؟ وكيف أرى ما لم أجسده أمام عين عقلى فيغدو العقل ذا حواس ترى وتسمع وتحدد كنه المتخيَّل وتلمسه؟ فلو أن مبتكرا لم يتخيل الطائرة فكيف يدرك أبعادها وكُنهها، وهَبْ أنه حاكى الطير فى الطيران أليست نظرية المحاكاة تقوم على التخيل ومن لم يتخيل يعش أسيرا فى ماضيه وخائفا من مستقبله وفاقدا حاضره؟ هؤلاء الذين يفضلون بين المواد العلمية والعملية يفتقدون العلاقة بين العلوم البينيّة التى لا تفصلها حواجز وضعها المتوهمون بسياجها ففقدوا البوصلة نحو الابتكار وكم من المتشددين من لم يكن مشربهم من بحار العلوم الإنسانية شطّوا بعيدا عن التسامح والوسطية وتقبّل الآخر والتعايش السّلمى، لقد كانت التشبيهات والاستعارات والمجازات والانزياحات عامة طريق ضوء للعقل وإن كان منبتها لكنه وهو ينتج هذى العلاقة يتكئ على الوجدان والعاطفة والشعور، وما جاءت هذه الانزياحات إلا من عجز العقل عن إدراك المحسوس بالمباشر من المعانى والألفاظ فألبسَ الأدباءُ الألفاظَ المعانى الجديدة أو قام المعنى بانتقاء ألفاظ تعبر عنه متجاوزا حدود الألفاظ اللغوية المحدودة إلى أفق ابتكارى تجاوز الحدود إلى اللامحدود التخييلى الذى تعجز اللغة العادية عن إدراكه.. لقد كان الشعر محفزا على الابتكار وتجاوز المألوف المعتاد؛ فالأدباء عامة يأنفون من المكرور «فالعادة حجاب» كما يقول النفّري. تنوع البيئات الثقافية من أجمل ما نراه فى مصر تنوع البيئات الثقافية، فما نسمعه من فنون فى صعيد مصر يختلف عما نراه ونسمعه فى مطروح أو سيناء أو الدلتا أو النوبة أو أهل قناة السويس، وهذا الثراء الأدبى والفنى يجعل مصر غنيةً بالقوى الناعمة التى تطبع كل إقليم من أقاليمها بجماله وتفرده؛ فللنوبة فن جميل وأدب صادق بدءًا من رواية «الشمندورة» لمحمد خليل قاسم أول رواية نوبية حتى كتابات الشباب المعاصرين وغناء محمد منير، وهذه الفنون النوبية المدهشة تحمل معانى الحنين والغربة والعشق والجمال، وما نراه من سمسمية القناة بإيقاعها المتفرد وما نسمعه من أغنيات السواحل وأهازيج الصعيد وحِكم الصحراء عند العبابدة والبشارية وأولاد على وغيرهم، كل هذا يعطى لنا صورة مدهشة للفن المصرى والأدب بشتى صوره وأشكاله. الفنون الشعبية فى الصعيد يعد الشعر فى الصعيد مكونا رئيسا من مكونات الشخصية، فحضوره فى الفرح والحزن لا يختفى فى أغنيات الأفراح والحجيج والموالد والأعراس والسيرة الهلالية بحضورها الكبير والإنشاد الدينى ليلا. وفى الأحزان نجد التسبيل والعدّيد وإن كادت تختفى هذه المظاهر رويدا رويدا بسب الفتاوى المتشددة وتغيير نظرة المجتمع للفنون الشعبية كما أن ضرورات الحياة ومطالبها وسرعة إيقاعها كل هذا أسهم فى خفوت صوت الأدب الشعبى وحضوره وقد رأينا تحوّل الأفراح من «المنادر» إلى قاعات الأفراح بالفنادق وغيرها ما أسهم فى ضياع كثير من البهجة والفرحة والغناء بحيث تذهب فتسمع الديجيهات تعلو حتى تحوّل المعازيم إلى «طُرش» يتحاورون بالإشارة لعلو صوت الديجيهات بأغان هابطة حوّلتهم إلى «خُرس». الموال فى صعيد مصر ما يزال الموال وفن الواو لهما حضور مرئى فى صعيد مصر، فلا يكاد يخلو مجلس سمر أو عزاء من ذكر أبيات شعرية من فن الواو والموال ولا سيما عن غدر الزمان وتبدُّل الأحوال وانقلاب الوضع الاجتماعى نظرا للتغيرات الاقتصادية المفاجئة التى رفعت أناسا فجأة وهوت بآخرين دون سابق إنذار. من هنا يجد هؤلاء وأولئك فى الشعر العامى ملخصا لما يحدث فى هذه الدنيا فى ضوء الحكمة التى يختزلها من قديم الأزمنة فى أبيات معدودة. ثلاثية الرحيل هُوَ ذَا أَتَى!! هُوَ ذَا أَتَى فلْتفْتحى كلَّ النّوافذ لم يعدْ وحشاً نخافُه! واسْترْسِلى فى حَكْيِ قِصَّتِكِ الأخيرة ولْتَغْلِقى الأوهامَ كيْ أَغْفو فخلفَ البابِ مُنتظرٌ غريب ولتطفئى دَمْعَ الشموع! سيجيء عصفورٌ جميل يُلقى على وَجَعى السلام فدعيه يأتى، لا تُميطى عن مُحَيّاه اللثام وتَمَسّكى بالحلم، لا تقفى على طللي وَبِيعى ما تبقّى من خيالاتى وأوعيتي وهاتى نَبْتةَ الأحلامِ من حقلِ السنين الخالياتِ فخلفَ أوراقى تئنُّ حروفُها ،غَرْقَى المدادِ تمدّ كلّ نقاطها، وتغوص فى بئر الطلاسم والسواقى الطاحنات ولْتكتبى فوق الطلول الناحبات: «ما خاننى أحدُ بلْ خاننى الجسَدُ»! قرْع الباب لم أعد أبغى كثيرا هذهِ الطّرْقاتُ، قَرْعُ البابِ أسمعُهُ جَلِيّا فوْقَ بابي مُوصَدٌ بالْحُزنِ لا لم أعد أبغى كثيرا قرْع... قرع مَنْ؟ قُلْت: ادخُلْ يبدو أنّ الطارقَ كان أَصَمْ أو أن الصوتَ الطالعَ من حلقى كانَ الدّمْ قرْع... قرع... قرعُ البابِ اشتدْ جاء العدَم فكان العَدَمُ سُكونا يبقى قرْع... قرع... ماذا فى جُعبَتِهِ؟ ماذا يتأبّطُ فى مشيتهِ؟ يتأَبّطُ عنقودا من أرواح تتمطى ومرايا تعكسُ أسئلةَ الدّهشةِ والظمأِ إليْكِ ونظراتِ العُتبى ووجوهٍ تأتى فى قافلةِ الموْتِ وتتدلّى من أعناقٍ رُبِطَت بسلاسل من ليلٍ نَسِيَ ظلامَهْ أسمعُ قَرْعَ البابِ فمعْذرةً.... قرْع... قرع... أيّتُها الموسيقى كوني فى الصمتِ وفى الضوْء وفى الضوضاء ففى العُدْمِ لُحُونُ الصّمت «أيها العَدَمُ الجميل لكَ البقاءُ لكَ الوجودُ لكَ الخلودْ» قرْع... قرع... حَفّارُ القريةِ يسألُ فى استعجال: - كَمْ قبراً أَحفرُ؟ لا أَحَدَ يُجيبُ سوى الصّمت حفار القرية يمسحُ سُحْب غبار فوق جبينه يضرب بالفأسِ فتتفجّرُ عَيْنُ الموت! قرْع... قرع... -هلْ ترغَبُ فى شيء؟ - لا... لَمْ أَعُدْ أَبْغى كثيرا ! هامش تجاوزتُ نصفَ الطريقْ ولم يبق فى صحبتي غيْرُ ذكرى ونصفُ صديقْ ! وستون عامًا ونصف وستون عاما ونصفٌ، فماذا تبقى؟ سوى دمعةٍ من عيونٍ تَسَاقَطَ فى نهرها الحلمُ، لم يبق إلا الأمانى الكَذُوبْ، تفاصيل يومِ الرحيل، هنا سوف نزرعُ صَبّارةً، سيأتين فى ملبسٍ مُحزنٍ باكياتٍ سيمضينَ فى شارعٍ مُتْرَبٍ بالكلام ويرجعنَ يسألنَ عن أحفادهنّ ، وينسون قبري ستأتى هنالك «بَكّايَةٌ» سينبتُ من دمعها الناي تمرّ هنا الريح فى جوفهِ يئنُّ..... وتبكي وتعزف لحن الخلودِ على مسمعي فأصحو وأخرجُ فى مكفني ونرقص فى ساحة الوجدِ نرقصُ ...ثم نعلو رويدا رويدا ونعلو ونركضُ وسط الهواءِ ونمضي، ونمضى ... ونفنى ! فى النهايات تتجلى البدايات الصدى - عمن تبحث؟ - أبحث عن حُلم - حُلمك «لن يأتي» - أبحث عن «يأتي» تسقط «لن»