على مدار ثمانية عقود، شكّلت التحالفات الأمريكية مع القوى الديمقراطية حجر الزاوية في الاستراتيجية الخارجية لواشنطن، والتي امتدت إلى مجالات الاقتصاد والثقافة، ما رسّخ النفوذ الأمريكي عالميًا. وفقًا لمجلة «ذا أتلانتك» الأمريكية، لعبت الولاياتالمتحدة دورًا محوريًا في استقرار مناطق مضطربة، عبر ضخ استثمارات هائلة في أمن حلفائها، ما مكّن دولًا مثل ألمانيا واليابان من تحقيق نهضة اقتصادية مستدامة، بعيدًا عن تهديد الأنظمة الاستبدادية التوسعية. لكن مع صعود الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للساحة السياسية، يواجه هذا الإرث تحديًا غير مسبوق، إذ يتبنى نهجًا يعيد ترتيب الأولويات، ويراهن على الانعزال النسبي، وتقليص الالتزامات التاريخية، ما قد يعيد تشكيل الخريطة الجيوسياسية برمّتها، فهل تشهد الولاياتالمتحدة نهاية عصر التحالفات التقليدية، وبداية مرحلة جديدة من السياسة الخارجية الأمريكية القائمة على المصالح الاقتصادية البحتة؟ كيف تترجم سياسات ترامب عمليًا؟ أحدثت سياسات ترامب قطيعة مع عقود من التحالفات الأمريكية، منهيًا نهج ما بعد الحرب العالمية الثانية الذي ارتكز على دعم الديمقراطيات الحليفة، لكن هذا التحول لم يكن وليد اللحظة، بل سبق أن أعرب عنه ترامب منذ 1987 حين وصف التحالفات بأنها "عبء مالي" وطالب بتقليل الالتزامات الأمريكية، وهو ما بدأ تنفيذه فعليًا خلال رئاسته الأولى. وفي عام 2000، أكد ترامب أن "الانسحاب من أوروبا سيوفر للولايات المتحدة ملايين الدولارات سنويًا"، وهو ما انعكس في سياساته، حيث فرض نهجًا انعزاليًا، وقلص الالتزامات العسكرية، وأثار تساؤلات حول مستقبل الشراكات الأمريكية، واليوم، يبدو أن سياسات ترامب ستتجه نحو تغييرات أعمق قد تعيد تشكيل النظام العالمي. وخلال رئاسته الثانية، لم تعد سياسات ترامب مجرد تصريحات، بل تحولت إلى استراتيجيات ملموسة، في مؤتمر ميونيخ الأمني، كان الحاضرون يتوقعون من نائبه ج دي فانس التركيز على التحركات الروسية في أوكرانيا أو دعم كييف على صعيد استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، لكنه بدلاً من ذلك شن هجومًا كلاميًا على الديمقراطيات الأوروبية، واصفًا إياها بكيانات غير ديمقراطية، متبنيًا خطابًا أقرب إلى الدعاية الروسية، ما أكد للمجتمع الدولي أن أولويات واشنطن تغيرت. اقرأ أيضًا: الاتحاد الأوروبي: ترامب «خلط» بين رئيسي روسياوأوكرانيا بوصفه زيلينسكي ديكتاتورًا هل تتحول أوكرانيا إلى غنيمة أمريكية؟ لم تقتصر سياسات ترامب على الخطاب، بل امتدت إلى فرض معادلة اقتصادية جديدة، فقد زار وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت كييف حاملًا وثيقة من صفحتين طالبًا من الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي التوقيع عليها. هذه الوثيقة تنص على حصول الولاياتالمتحدة على 50% من موارد أوكرانيا، بما في ذلك المعادن والنفط والغاز والموانئ، للأبد، ورغم أن أوروبا قدمت دعمًا عسكريًا وماليًا يفوق ما قدمته واشنطن، إلا أن هذه الاتفاقية إن تمت ستتركها خارج اللعبة تمامًا، فيما سيجد الأوكرانيون أنفسهم بلا أي ضمانات أمنية أو استثمارات أو خطط لإعادة الإعمار. ووفقًا لمجلة «ذا أتلانتك» الأمريكية، تعكس شروط الاتفاق صرامة تفوق حتى معاهدة فرساي التي فرضت على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وربما أشد من تلك المفروضة على ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية، علاوة على ذلك، تتعارض البنود مع القوانين الأوكرانية الحالية، ما دفع زيلينسكي إلى رفض التوقيع، في ظل سياسات ترامب الجديدة. من المستفيد الحقيقي؟ الأمر لا يقتصر على قسوة الاتفاق، بل يمتد إلى الغموض الذي يحيط بمستفيديه، فهل ستكون الحكومة الأمريكية المستفيدة الرئيسية، أم أنها فرصة اقتصادية لأصدقاء ترامب وشركائه التجاريين؟ وما يزيد الأمر جدلًا هو أن النزاعات المتعلقة بالاتفاق ستُحسم في محاكم نيويورك، وكأنها المخولة للبت في قضايا بهذا الحجم. وبينما قدم جي دي فانس، خطابًا صادمًا في مؤتمر ميونيخ للأمن، حمل بيسنت عرضًا صعبًا إلى كييف، لتتضح معالم سياسات ترامب تجاه الحلفاء، مفادها: «لم تعد واشنطن مهتمة بالتحالفات التقليدية، بل بات دعمها مشروطًا بالقدرة على الدفع، ومن لا يملك ما يقدمه اقتصاديًا، فليس له مكان في أولويات الإدارة القادمة». وفي مؤتمر صحفي حديث، أعاد ترامب تأكيد رؤيته للسياسة الخارجية عبر تصريحات مثيرة للجدل حول أوكرانيا، وزعم أن كييف هي من بدأت الحرب الروسية الأوكرانية، متجاهلًا حقيقة التحركات الروسية بكييف وفقًا لمجلة «ذا أتلانتك»، وادعى أن واشنطن أنفقت 350 مليار دولار هناك، رغم أن الرقم أقل بكثير، ليتضح أن سياسات ترامب أصبحت أداة لإعادة صياغة التحالفات بطرق غير مسبوقة. بحسب «ذا أتلانتك» الأمريكية، لا يزال من غير الواضح لماذا يُكرر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، هذه الادعاءات، ولماذا تساهم شخصيات مثل تولسي جابارد في نشره، ما هو مؤكد أن سياسات ترامب تميل إلى التحالف مع القوى التي تتوافق مع مصالحه، سواء كان ذلك الرئيس الروسي فلاديمر بوتين، أو حتى الرئيس الصيني شي جين بينج، متجاهلًا الاتفاقيات والمعاهدات السابقة مقابل مكاسب سياسية واقتصادية. أوروبا تواجه واقعًا متغيرًا وفي ظل هذا التحول في سياسات ترامب، أصبحت كل الشراكات محل إعادة تقييم، وأدرك زيلينسكي هذا مبكرًا حين اقترح منح واشنطن حق الوصول إلى الموارد والمعادن الأوكرانية النادرة، لكن لم يكن يتخيل أن المقابل سيكون شبه معدوم، لتدرك أوروبا أنها باتت بحاجة إلى إعادة النظر في استراتيجياتها لتجنب العواقب الوخيمة. ولطالما شكلت المظلة الأمريكية عنصر ردع ضد التحركات الروسية على صعيد الحرب الروسية الأوكرانية، لكن مع تقلبات سياسات ترامب بعد عودته للبيت الأبيض للمرة الثانية، يجب على أوروبا بناء منظومتها الدفاعية المستقلة، حيث هناك بالفعل حديث عن إنشاء "بنك دفاعي" لتمويل التحديثات العسكرية، لكن المطلوب الآن هو زيادة الإنفاق الدفاعي ووضع استراتيجية موحدة لمواجهة المستقبل غير المستقر في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، بحسب المجلة الأمريكية ذاتها. وفي النهاية، قد يتساءل المؤرخون مستقبلا، ماذا لو التزم ترامب بموقفه السابق، وواصل دعم أوكرانيا، وأجبر روسيا على تقديم التنازلات في سياق استمرار الحرب الروسية الأوكرانية، في ظل الواقع الذي يشير إلى أن سياسات ترامب تسير في اتجاه مختلف تمامًا، حيث تعيد تشكيل النظام العالمي وفقًا لمصالح ضيقة، تاركة الحلفاء أمام معادلة جديدة غير مألوفة.