تخيل لو أن مدينتك توقفت فجأة عن جمع القمامة. خلال أيام معدودة، ستتراكم النفايات وتتحول إلى أزمة تهدد الصحة العامة. الأمر مشابه تماماً لما يحدث داخل خلايانا، إذا فشلت أنظمتها فى التخلص من «نفاياتها» البيولوجية، وهى البروتينات التالفة أو غير الضرورية التي يجب إزالتها باستمرار للحفاظ على صحة الخلية وسلامتها. إذن، «كيف تنظف الخلايا نفاياتها بدقة مذهلة؟»، كان هذا السؤال محور دراسة علمية نُشرت فى دورية «موليكو لار سيل»، وأفردت الدورية مقالاً خاصاً فى مقدمتها التحريرية للحديث عن أهميتها، واصفة النتائج بأنها «أساسية لفهم النظام الديناميكي الذى يحافظ على صحة الخلية ويعالج الأمراض». وقاد هذه الدراسة محمد شعبان، باحث الدكتوراة فى جامعة إمبريال كوليدج لندن وفى معهد فرانسيس كريك بالمملكة المتحدة، إذ تمكنت الدراسة من الكشف عن أحد أهم أسرار نظام التخلص من البروتينات التالفة داخل الخلايا، مما يفتح آفاقاً جديدة فى مجال الطب الحيوي. ◄ آلية دقيقة تتحدى الزمن وتعتمد الخلايا فى التخلص من البروتينات التالفة أو غير الضرورية على شبكة مذهلة من الآلات الجزيئية الدقيقة، والتى تشكل خط الدفاع الأول لحماية صحة الخلية. ومن أبرز هذه «الماكينات الخلوية» ما يُعرف باسم إنزيمات «الكولين - رينغ الرابطة»، والتى تعمل ك «وكلاء تنظيف»، حيث تتولى وضع علامة مميزة (وهى بروتين صغير يُسمى «يوبيكويتين») على البروتينات المُراد التخلص منها، وهذه العلامة تُشبه إلى حد كبير «بطاقة إتلاف»، والتى تنبه نظام الخلية لإزالة هذه البروتينات عبر آليات مُخصصة. ولكى تؤدى إنزيمات «الكولين- رينغ الرابطة» دورها بدقة وكفاءة، تحتاج إلى تغيير «قفازاتها» (مستقبلات البروتينات المُستهدفة) باستمرار، إذ يختص كل قفاز بالتقاط نوع محدد من البروتينات دون غيره. وقد كشفت الدراسة الحديثة عن الآلية الجزيئية التى تتيح لهذه الإنزيمات استبدال قفازاتها بسرعة فائقة بفضل بروتين يُدعى «كاند1» (CAND1). وما يثير الدهشة أن هذا البروتين، على الرغم من أنه ليس إنزيماً، يسرّع عملية الاستبدال بمعدل مذهل يصل إلى مليون ضعف، وهو لغز حير العلماء لعقودٍ، هذا التبديل السريع يضمن استهداف البروتينات بدقة وفى الوقت المناسب. ويكمن جوهر أهمية هذا الاكتشاف فى أنه يمنحنا رؤى جديدة عن الأسباب الكامنة وراء أمراض مثل: السرطان وبعض الأمراض التنكسية. ففى العديد من هذه الحالات، تتعطل آلية التخلص من البروتينات، مما يؤدى إلى تراكم بروتينات ضارة فى الخلية. ومن خلال فهم آلية إنزيمات «الكولين - رينغ الرابطة» وكيفية تنظيمها، يمكننا أن نضع أسساً لتطوير استراتيجيات جديدة لاستعادة التوازن الخلوي. نحو جيل جديد من العلاجات: بروتاك والغراء الجزيئي نتائج هذا البحث لا تقتصر فقط على الفهم الأساسى للبيولوجيا الجزيئية، بل تمتد لتشمل إمكانيات هائلة فى مجال تطوير الأدوية. على سبيل المثال، هناك تقنيات متقدمة مثل: «بروتاك» والغراء الجزيئى التى تستغل نظام التخلص من البروتينات الخلوى بشكله الطبيعى لإجبار الخلية على تدمير البروتينات المرضية أو تلك التى لا تطالها الأدوية. وتعتمد تقنية «البروتاك» على تصميم جزيئات صغيرة قادرة على «ربط» البروتين المرضى بآلية التخلص الخلوى الطبيعية المذكورة آنفاً، وهذه الجزيئات تعمل كجسر بين البروتين المُستهدف وإنزيمات «الكولين - رينغ الرابطة»، مما يؤدى إلى تدمير البروتين المرضى بدقة، وتُعد هذه التقنية واعدة للغاية، خاصة فى علاج الأمراض المستعصية مثل: السرطان وبعض الأمراض الوراثية. أما الغراء الجزيئي فهو أسلوب آخر يعتمد على جزيئات صغيرة تقوم بتغيير شكل البروتينات المَرَضية بحيث تسهل تفاعلها مع إنزيمات «الكولين - رينغ الرابطة» وتدميرها، والغراء الجزيئى بسيط وفعّال، ويقدم إمكانية استهداف البروتينات التى كانت تُعتبر سابقًا «مستعصية» على العلاجات التقليدية. آفاق البحث: تحسين العلاجات واستهداف «غير الممكن» وتضيف نتائج هذه الدراسة فهماً جديداً لآلية تنظيم إنزيمات «الكولين - رينغ الرابطة»، مما يعزز من فعالية هذه الأساليب العلاجية. فعلى سبيل المثال، تستغل بعض الأمراض المستعصية، مثل: السرطان، الكثير من البروتينات التى لا يمكن استهدافها بالأدوية التقليدية، حتى تتمكن من الانتشار والفتك بأنظمة الدفاع الخلوية، وبالتالي، فقد تساعد هذه الدراسة على تنظيم استهداف هذه البروتينات التى لا تطالها الأدوية، ليتم تدميرها بواسطة إنزيمات «الكولين - رينغ الرابطة»، مما يفتح الباب أمام تطوير علاجات أكثر فاعلية ودقة. كما ستساعد الآلية المُكتشفة على زيادة كفاءة أنظمة «البروتاك» لتجعل إنزيمات «الكولين - رينغ الرابطة» قادرة على التفاعل مع البروتينات المُستهدفة بشكل أسرع وأكثر دقة. كما قد تسهم الآلية المُكتشفة فى تحسين فعالية الغراء الجزيئي، مما يتيح استهداف مجموعة أوسع من البروتينات. ويواصل د.محمد شعبان أبحاثه حالياً فى مجال البيولوجيا البنيوية بجامعة إمبريال كوليدج لندن ومعهد فرانسيس كريك فى المملكة المتحدة. وكان شعبان قد حصل على درجة الماجستير من جامعة ولاية نيويورك فى الولاياتالمتحدة، حيث ساهم خلال دراسته فى الكشف عن التركيب البنيوى للحظة ميلاد خيوط الأكتين. إذ كشفت تلك الدراسة عن الآلية التى تحفز تكوين خيوط الأكتين، وهى بروتينات تستخدمها الخلية للانتقال من مكان إلى آخر، كما تمنح الخلية شكلها المُميز من خلال دعم هيكلها، وتساهم فى نقل المكونات داخلها. ويُساهم الخلل فى هذه الآلية، إلى جانب عوامل أخرى، فى انتقال وانتشار السرطان من مكان إلى آخر. وقد حصل إثر هذا الاكتشاف على جائزة «مبتكرون دون 35 عاماً» التى تمنحها مجلة «إم أى تى تكنولوجى ريفيو».