تعرضت لمحاولة اغتيال داخل السجن على يد عاصم عبدالماجد كان أكثر من سجين يراقبون الموقف التفوا حولها ومنعوه. سنوات تفوق الأربعين عاما وأنا أتعامل مع ضباط الشرطة فى كافة المواقع والقطاعات الأمنية. كنت أتابع عن كثب أسلوب تعاملهم مع المتهمين فى قضايا أو المحكوم عليهم بالسجون.. اكتشفت أن هناك نسبة ليست قليلة من هؤلاء الضباط كانت تحرص على احترام آدمية وحسن معاملة من يقع تحت أيديهم وربما كان البعض يضطر لمخالفة اللوائح أحيانا فى سبيل هدف إنسانى نبيل.. تبرير هؤلاء الضباط أن عائد المعاملة الأخلاقية أفضل عشرات المرات من المعاملة القانونية الجافة دون اعتبارات الإنسانية... وفى يوميات اليوم أستعرض ثلاثة نماذج عايشتها بنفسى فى الواقع تؤكد هذا المعنى النبيل... فى نهاية التسعينيات كان الرائد عبدالوهاب هاشم -الذى أصبح أحد قيادات مباحث القاهرة فيما بعد- قد ترقى رئيسا لمباحث قسم شرطة الزيتون.. وكالمتبع كان لابد من عقده اجتماعا يشمل كل المصادر السرية (المرشدين) -وغالبا يكونون بالطبع أصحاب سجل جنائى- للتعارف معهم وشرح منهاج علاقته معهم. أحدهم مسجل خطر كان صاحب عدد من أحكام السجن الغيابية فطلب الرائد عبد الوهاب هاشم أن يذهب للنيابة وعمل معارضة فى الأحكام فهو لن يسمح بأى انفلات. فى اليوم التالى وفى شارع سليم كان رئيس المباحث يمر عندما أبصر المسجل خطر يقود دراجته وأمامه طفلته فسأله عن أمر معارضة الأحكام فاعتذر عن التأخير لانشغاله فى جلسة علاج طفلته ودفع للضابط بمظروف به أوراق علاج ابنته ليؤكد صدق كلامه. وعلى عكس ما كان يتم لم يوبخه الضابط بل أمر أحد مخبريه بشراء شيكولاتة قدمها لطفلة المسجل وهو يربت على كتفها ويطلب من والدها إنجاز أمر المعارضة فيما بعد، وفى المساء فوجئ رئيس المباحث بالمسجل يطرق بابه، وعندما دخل بادر الضابط قائلا: حضرت أسدد دَيناً فى رقبتى لك عندما احترمتنى أمام ابنتى وأشعرتنى بآدميتى أمامها، والان سأخبرك بقصة قتيل جثته مدفونة أسفل ستارة سينما الزيتون منذ 10 سنوات عندما استدرجته زوجته مع عشيقها موظف السينما وقتلاه وأخفيا جثته فى سرداب الستارة.! وبالفعل توجه الضابط مع مخبريه للسينما وعثر على الجثة وتم القبض على الزوجة والعشيق الذى كان قد تزوجها وحُكم عليهما بالإعدام... أميرة فى سجن الرجال! المقدم أميرة هى أول ضابطة شرطة فى مصر واختارها اللواء زكى بدر بقرار شخصى لتكون ضابطة بليمان طرة حيث كل يقضى كل أعضاء الجماعات المتطرفة عقوبات السجن بجانب نزلاء السجن الجنائيين. كان اختيار اميرة لقوة بنيانها ولياقتها الرياضية العالية فى الأصل لتتعامل مع زوجات وقريبات أعضاء الجماعات والتفتيش الذاتى عند الزيارة لما عرف عنهن من الخشونة الشديدة. ولكن بمرور الوقت وخلال خدمتها التى استمرت فى سجون طرة كان لها منهج انسانى فى التعامل مع النزلاء خاصة الفقراء والمعدومين عملا بمبدأ أن المسجون خلف القضبان لا راعى له بعد الله سوى الضابط، فكانت توفر للمرضى منهم أدوية لا توفرها الخدمات الطبية للسجون فى ذلك الوقت مثل قطرات ضغط العين وغيرها وكثير منها على نفقتها الخاصة.. فى عيد الأضحى كانت تختار السجناء المعدمين الذين ليس لهم أقارب وتقدم لهم فتة اللحم التى جهزتها فى منزلها. كانت توفق كثيرا بين الأزواج وتقرب بينهم وجهات النظر ليتحقق الاستقرار العائلى فى المنازل. سلوك المقدم أميرة أكسبها علاقات طيبة واسعة جعلت نزلاء السجن يتسابقون لإبلاغها بمخالفات لا يمكن ضبطها الا بالكاد مثل تجارة الأقراص المخدرة ومعرفة أماكن تخزينها السرى وكذلك ضبطها كثيرا من أوراق التخطيط التى أعدها قادة التنظيمات لإحداث قلاقل فى البلاد وكان يتم ضبط الأوراق أثناء تهريبها فى الزيارة لزوجات أعضاء وقيادات الجماعة بإرشاد نزلاء من السجن. وعندما تعرضت لمحاولة اغتيال داخل السجن على يد عاصم عبدالماجد عندما انتزع شجرة صغيرة وقرر أن يهوى بها على رأس المقدم أميرة كان أكثر من سجين يراقبون الموقف قد التفوا حولها ومنعوا ما خطط له عاصم عبد الماجد للأنتقام من أميرة. فى منزل ضابط الإنتربول دائما كلما التقينا ويدور بيننا شجن الذكريات حول القضايا والمأموريات طوال خدمته فى إدارة الانتربول المصرى . نسترجع الأحداث أنا واللواء جمال عثمان عبدالقادر، ومنها قضية ياسمين وصبرية عام 95 التى ظلت حديث الرأى العام الفرنسى ومتابعة واهتمام شخصى من الرئيس الفرنسى وقتها فرانسوا ميتران وكل حكومته. كانت الطفلتان ياسمين وصبرية ابنتَىْ شاب مصرى وزوجة فرنسية دفع الخلاف بينهما الى الانفصال.. ولكن لخوفه على مستقبل ابنتيه فى مجتمع باريس قرر أن يخطفهما ويعود بهما الى مصر رغم حصول الأم الفرنسية على حكم بحضانة الطفلتين من القضاء الفرنسى. وبالفعل نجح الاب المصرى فى الوصول بابنتيه الى مصر بعد تدبير عملية لاختطافهما من الأم التى أقامت الدنيا ولم تُقعدها ليتعاطف معها كل المجتمع الفرنسى ويتم إصدار نشرة حمراء من الانتربول الدولى بضبط الطفلتين وتسليمهما للانتربول الفرنسى ثم إلى الأم بناء على حكم القضاء الفرنسى وحكم مماثل من القضاء المصرى. وبالفعل يتمكَّن الانتربول المصرى من الوصول لمكان ياسمين وصبرية ويقوم باستلامهما وتصلان إلى القاهرة. والمفترض طبقا للقانون أن يتم إيداعهما إحدى دور الرعاية مثل الملجأ لحين وصول ملف الاسترداد من فرنسا ووصوله للنائب العام قبل دراسته وإصدار قرار تسليمهما وهو ما يستغرق عادة نحو أسبوعين. ولأن تنفيذ الأمر سيصبح صعبا وقاسيا فكان قرار المقدم جمال عثمان وقتها هو التقدم بطلب لوزير الداخلية باستضافته الطفلتين فى منزله مع أطفاله وأسرته لرعايتهما بعيدا عن أماكن الاحتجاز الرسمية وحتى يترك لدى الطفلتين مشاعر طيبة عن بلد والدهما.. ووافق الوزير الذى قرر أن يتفرغ الضابط لهذه المهمة الإنسانية . ونظم المقدم جمال برنامج زيارات وحفاوة إنسانية. وفور صدور قرار النائب العام بتسليم الطفلتين لأمهما وصلت طائرة فرنسية خاصة تقل ضباط الانتربول الفرنسى والأم وكل وسائل الإعلام الفرنسى وعقب عودة الطائرة لباريس قطع التلفزيون الفرنسى إرساله ليذيع وصول الطفلتين اللتين حكَتا للأم مع حدث لهما من رعاية فى منزل أسرة الضابط المصرى. وكان التأثير الإيجابى للقصة الانسانية فوق كل وصف من الجانب الفرنسى حيث لبى طلب الانتربول المصرى بتسليمه بعض المتهمين المصريين الهاربين فى فرنسا ومحاكمتهم فى مصر بعد أن كان التوصل إليهم شبه مستحيل بسبب موقف أخلاقى وإنسانى لضابط الانتربول المصرى .