إنّ إسرائيل «دولة دون إجماع»، وسيظل مجتمعها مزدوج القومية، متصدّع الهوية، معقدًا، متصارعًا كانت دهشتها ممزوجة بالأسى الفاضح وهى تسرد قصة عودة أهل غزة إلى بيوتهم المُهدمة؛ تقول إنها لم تر ذلك من قبل ولا تفهم لماذا يفعلون ذلك رغم كل ما لاقوه من ألم وقسوة.. وهى صادقة فى ذلك فكيف تفهم قيمة الأرض من اغتصبت الأرض، وكيف يُدرك أهل الشتات رواسخ الأفئدة المُعلقة بتراب الوطن! جذبتنى دهشة تلك الفتاة الإسرائيلية؛ وهى تصف ما يحدث وكأنه مُعجزة فضائية غير قابلة للتكرار: صفوف تتلوها صفوف عائدة إلى مستقرّها فى ثبات المُنتصر وقوة الحق الناطق بالعزة الغالبة؛ وإذا كان الحق ما شهدت به الأعداء، فإن أحق الحق ما شهد به وشاهده الأصدقاء والأعداء على السواء.. وهذه الحيل الإسرائيلية الطامعة فى الأرض التى لم تحصل عليها بالقنابل إنما تُغطى على قهرها الذاتى وعجزها عن جمع شتات أبنائها على قلبٍ واحدٍ: «تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى»، مهما حاولوا تصدير الكلمة الواحدة والتعاون الآثم؛ وهى نواخر تأكل فى قلب الكيان وتُهدد تركيبته الديموغرافية.. خلافات كبيرة بين طوائفه وأعراقه.. صلف وغرور أبناء أوربا يدهس القادمين من غابات إفريقيا؛ وهو ما أكدته التمردات الثائرة ضد الحكومات المتوالية هناك؛ وما أشارت إليه دراسات عديدة بقرت بطن الكيان ورأت ديدانه تنهش لحمه من الداخل، وآخرها دراسة صديقى د.محمد آدم، التى حصل بها على درجة الدكتوراة، ونشر منسلَّات منها فى كتاب جديد بمعرض الكتاب بعنوان: «عوامل الانهيار». يؤكد «آدم» أن بداخل الكيان نبتة خلل اجتماعى فسيفسائى شيطاني، يؤدى فى أغلب الأحوال لصدع وتشقّقات غائرة وعنيفة فى جسده، فكل فئة أو طائفة لها مطالبها الخاصة التى تختلف عن غيرها، مما يثير الاحتمالات بقيام ثورات للمطالبة بتشريعات وخدمات وحقوق مدنية؛ تلك النزاعات التى قد تبدأ صغيرة ويتم التقليل من شأنها وأحيانًا إنكارها، لكن فى بطن الهدوء الصورى تثور براكين من شأنها ضرب استقرار المجتمع، وتهديد وحدته؛ فملف التنوع الاجتماعي، والطبقية المتشكلة حول قطاعات العولمة، ليس مجرد منطقة جامحة فى منظومة التخطيط الاستراتيجى فقط؛ وإنما هو منها القلب والجوهر؛ لأنّ إسرائيل تحتاج إلى قوننة القوميات والطائفية بداخلها، والارتكان إلى مفهوم الأكثرية اليهودية، فما تفعله هو علمنة لمفهوم الملّة، أى أنّه نسق طارد وليس جاذبًا للتنوع اليهودي؛ فالطائفية تضع حدودًا للديانات؛ وهذا يعنى أنّ البيئة داخل تلك الدولة الحديثة منغلقة وليست منفتحة كما قد يُقال.. إنّ إسرائيل ستظل كيانًا قلقًا، وهو ما يتسبب فى صراع لا نهائى بين العرب واليهود، ويشعل منطقة الشرق الأوسط لتصبح الأكثر سخونة فى العالم، بصراعات معقدة لا نهائية. ويركز «آدم» فى كتابه على أن التنافر داخل إسرائيل لن يمكن اختزاله، والتصدّعات ستزيد، ما دامت إسرائيل لا ترغب فى دمج جاليات اليهود الشرقيين وفلسطينيى الداخل «عرب 48»؛ حيث يشكّلون النسبة الأكبر من فقراء الدولة، ولن تنجح فى إيجاد آليات واقعية لصهر التركيبة الفسيفسائية اللازمة لقيام مشروع الدولة القومية التى تدّعى أنّها تبتغيه؛ لذا، فإنّ إسرائيل «دولة دون إجماع»، وسيظل مجتمعها مزدوج القومية، متصدّع الهوية، معقدًا، متصارعًا. هذه الدراسة، وغيرها كثير، تؤكد قاعدة معروفة فى علم المنطق قد تكشف لنا خبايا نفسية النتنياهوه وزمرته، وتُسمى بمغالطة الاستدلال الدائري، وهى حجة تفترض أن الشيء الذى تُحاول إثباته هو الصحيح؛ وبدلًا من تقديم الأدلة فإنها تُكرر النتيجة مما يجعل الحجة غير متماسكة منطقيا؛ وتوجد العديد من أنواع المغالطات ولكنها تشترك جميعها فى أنها تجعل الحجة غير صحيحة؛ وقد استخدم «جوبلز» نوعًا منها يُسمى بمغالطة التقسيم الثنائي، وهى افتراض أن هناك خيارين فقط، بينما قد يكون هناك المزيد؛ ويستخدم وريثه نتنياهو نوعًا آخر هو «مُغالطة رجل القش» ويقوم على تحريف حجة الخصم لتسهيل مُهاجمتها؛ ويفعل نتنياهو ذلك حين يُخاطب شعبه ويوهمه بانتصار زائف، كما يفعله فى المحافل الدولية حين يفترى الكذب على المقاومة الفلسطينية؛ وهى حيلة ساذجة جدًّا ومكشوفة؛ ليس فقط لأنها تُدابر العقل؛ بل لأنها تُظهره أيضًا بمسحة باردة تليق به.