السلطة الأبوية والهيمنة الذكورية كان الموضوع المسيطر على أفلام مهرجان صندانس السينمائى الواحد والأربعين الذى أقيم بمدينة بارك سيتى بولاية يوتا، خلال الفترة من 23 يناير حتى 2 فبراير 2025، عدد كبير من الأفلام الروائية الأمريكية والدولية التى تنافست على جوائز المهرجان تناولت سلطة الأب من خلال سرديات ورموز مختلفة، وبطرح اجتماعى أو سياسى يحمل أفكارًا متحدية للواقع والتقاليد الراسخة فى بعض المجتمعات.. يدعم مهرجان صندانس الأصوات الحرة والأفكار المختلفة مهما كانت، لكن دعمه لقضايا المرأة ومواجهة الهيمنة الذكورية فى مختلف المجتمعات غير محدود... معظم الأفلام النسائية المشاركة فى المهرجان تدور حول هذه القضايا، وبين أفلام المخرجين الرجال عدد كبير أيضًا ولكن أكثر قوة وجرأة... كان بينها فيلم «الأشياء التى تقتلها» للمخرج الإيرانى الأمريكى على رضا خاتمى، عن العنف الأبوى والسلطة الذكورية التى أفسدت حياة البطل وقبله المجتمع كله، الفيلم فاز بجائزة أفضل إخراج، وكان هو أفضل الأفلام بلا منازع. والفيلم المقدونى «دى جى أحمد» العمل الروائى الطويل الأول للمخرج الموهوب جورجى إم أونكوفسكي، الفيلم الوحيد الذى اتفق عليه التحكيم والجمهور، ففاز بجائزة الجمهور لأفضل فيلم روائى دولى، وجائزة لجنة التحكيم الخاصة، عن مراهق بقرية صغيرة بشمال مقدونيا يواجه قسوة الحياة بعد موت أمه التى كانت تشاركه حب الموسيقى، يبدأ الفيلم بموسيقى مبهجة يتمايل عليها أحمد وزملاؤه بالفصل الدراسى، يقطعها دخول مدرس يبلغ أحمد بقرار والده بإنهاء تسجيله بالمدرسة، بهذا القرار الغاشم يقضى الأب الذى يعمل راعيًا للغنم على حلم وطموح أحمد الذى تشع عيناه ذكاء، يطالبه الأب المتجهم دائمًا بمساعدته فى رعى الغنم، ورعاية أخيه نعيم الطفل الذى فقد النطق بعد موت الأم، يعامله بفظاظة تبدو غير مبررة فى بداية الأمر، ثم فى مواجهة غير مكتملة بينهما نعرف أن الأب الفقير الذى يكافح لعلاج الصغير يواجه ضغوطًا لا يحتملها بعد رحيل زوجته التى كانت تعاونه وكان يحبها، لذلك غيب المخرج ألوان الطبيعة الرائعة والمبهجة فى مشاهد الأب، وكأن حياته لونتها فرشاة واحدة بألوان باهتة كئيبة، لكن أحمد الشاب المتمرد يسيطر عليه حب الموسيقى، يجد فيها حريته وانطلاقه، ويتملكه شعور قوى بأنها العلاج الوحيد لأخيه نعيم، الذى يعشق الموسيقى مثله ويشارك أحمد رقصه الإيقاعى بفرح لا يعجب الأب الذى ينهرهما وبديكتاتورية مطلقة يبيع الجهاز الذى يسمعان عليه الموسيقى... إلا أن أحمد الذى وقع فى غرام آية، الفتاة الجميلة الثرية والمفتونة مثله بالموسيقى والرقص، يصنع «دى جى» خاصا به بعيدًا عن عيون الأب، ليتعاونا فى المشاركة بأحد المهرجانات التى تقام بالقرية، ترقص آية بحرية وتتمايل بجرأة أمام عيون الجميع، متحدية أبيها شديد الصلافة والعنف والذى قرر تزويجها دون رغبتها لشاب من أسرة ثرية ليمنعها من الارتباط بأحمد، تشتعل الأحداث، تبدو آية مستسلمة فى البداية، ويوم العرس تتزين بالذهب الذى أهداها إياه العريس، وكلمات النساء تشجعها وتنصحها بالانصياع لوالدها حتى يفتخر بها، وفجأة يناديها أحمد من خلال مكبر الصوت بمئذنة جامع القرية... كان أحمد قد ساعد بعلمه إمام الجامع فى تركيب أجهزة صوتية وتوصيلها بالكمبيوتر ليعلو صوت الأذان فى القرية، والآن يستعين أحمد بالتكنولوجيا التى أسهم بدخولها للجامع، لينقذ حبيبته ويشجعها على التمسك بحقها فى الاختيار، «آية إفعلى ما تريدين»، ويظل يتحدث إليها من خلال مكبرات الصوت حتى يخرج أبو آية ومعه سلاحه ليقتله، فى حين يهرع أبو أحمد لينقذ ابنه من القتل مدافعًا عن حقه فى الحب، وكأنه تحول أو أفاق من غفلته، لتلتقى فى النهاية عينا الأب وابنه وهما يواجهان القرية كلها، فى حين تهرب آية وتركب القطار لتنجو بحياتها من تسلط أبيها.. الممثلون كلهم فى حالة رائعة، خاصة أريف جاكوب الذى لعب دور أحمد، والذى نجح فى تمثيل تقلبات المراهقة من المرح للحب للتمرد للغضب، ودور أكان زلاتانوفا التى لعبت دور آية ونجحت فى ترجمة كل التناقضات بداخلها، والمشاعر والرغبات المتحدية التى قادتها للنجاة بنفسها، نجح المخرج فى إدارة ممثليه ومعظمهم من الهواة، كما نجح فى تصوير السمات الثقافية للمجتمع بشمال مقدونيا، وتصوير طبيعتها الساحرة النابضة بالحياة والألوان بمساعدة إبداع مدير التصوير الرائع نعوم دوكسيفسكى وقد استغل انعكاس الشمس على المزارع وألوان الطبيعة بالقرية وأزياء أهلها التراثية ذات الألوان الزاهية ليرسم لوحات مبهرة، نافسها فى الإبهار الموسيقى التصويرية التى مزجت بين الموسيقى الغربية والموسيقى المحلية والأغانى الشعبية المقدونية والتى استغلها المخرج ليمزج بين إيقاع الحداثة والعراقة، بتصوير بطىء أحيانا ولقطات قريبة لأبطاله ليجبرنا على التوحد معهم، وكانت الموسيقى هى أحد وأهم أبطال الفيلم الممتع.