«اليوم هو اليوم الأخير لعم بندارى فى خدمة الحكومة». بهذه الجملة القصيرة الموحية، المحملة بالتوقعات يبدأ الكاتب كمال رحيم روايته البديعة «بندارى». الجملة المختصرة المكثفة ذكرتنى بمفتتح رواية ألبير كامو الشهيرة «الغريب»: «ماتت الأم. الدفن غدًا. تحيات طيبة»، تلك البرقية التى تلقاها من دار المسنين التى كانت تقيم بها أمه. رواية «بندارى» تدور حول شخصية من الريف المصرى هى شخصية «عم بندارى»، ترصد بداياتها، وتحولاتها، كيف بدأ رجلا بسيطا يسرح بالبهائم، ثم دفعته طموحاته إلى الحصول على وظيفة غفير أو حارس لبنك التسليف أو «الشونة» التى كانت معروفة من أيام الملك فؤاد، ثم الملك فاروق حتى تم تأميمها بعد ثورة 1952. مع التحولات السياسية فى مصر يضفر الكاتب أحداث حكاية «بندارى» مع ما يجرى فى المجتمع المصرى، يصبح بندارى بعد التأميم موظفا حكوميا بعد أن كان غفيرا لعمل خاص يديره رجل واحد. شخصية بندارى هى المحورية فى الرواية كما يظهر فى العنوان، وهناك شخصيات أخرى فى الرواية، موريس رئيس بندارى فى الشونة، الرجل الملتزم التقليدى، الذى يخاف الله ويمشى جنب الحيط. عكس بندارى الفهلوى، صاحب الذمة الواسعة، الذى لا يتورع عن ارتكاب أى مخالفة تأتى له بالمال لكن بمهارة، ودون أن يكشفه أحد. مع خروجه إلى المعاش يبدأ بندارى مرحلة أخرى من حياته، كأنه يكتشف الطرق والشوارع، البشر والدنيا من جديد. يقرر أن يؤسس «الشونة» الخاصة به لجمع القطن من المزارعين الصغار، وتكييسه وبيعه. يوظف موريس الذى كان رئيسه موظفا عنده ولكن بلا أوراق أو عقود، فقط كلمة شرف «عشرة جنيهات تحت الحساب وبعد ما يتباع القطن أكملك المبلغ سبعين جنيها أو ربما ثمانين إذا زادت المكاسب». حبشى هو ثالثهم لكنه بلطجى وسليط اللسان، لا يسكت لبندارى ويتقاضى عمولته يوميا على ما تم بيعه. وبندارى لا يريد فضائح وصوتا عاليا فيعطيه حقه كل يوم. علاقته بحماره الخاص مدهشة وإنسانية، كأنه صديقه الحميم الذى يبكى معه همومه ويستريح فى الفضفضة معه. زوجته الأولى هانم التى اعتصر قلبه ألما لموتها، وعندما عذبه أولاده وأحفاده بخشونة طباعهم، وأنانيتهم، فكر فى ترك البيت والزواج بأم عاطف. رواية «بندارى» هى الرواية الأخيرة التى كتبها دكتور كمال رحيم قبل رحيله عن عالمنا، بعد أن ترك لنا أعمالا أدبية مهمة أولها: ثلاثية «المسلم اليهودى» التى حازت العديد من الجوائز.