فى جناح الأزهر الشريف بمعرض القاهرة الدولى للكتاب تبدو الصورة مُشرقة والأجواء مُبهجة؛ الفعاليات متنوعة بتنظيم رائع كان الأديب الكبير يوسف إدريس مهمومًا بالثقافة والتثقيف؛ ولهذا أطلق مقولته الشهيرة «أهمية أن نتثقف يا ناس» عام 1984م؛ وهى المقولة التى تردد صداها عبر الأجيال، حتى أصبحت النبراس الذى يهتدى به كل راغبٍ فى نشر الثقافة الحقيقية بين الجمهور باعتبارها أمنًا قوميًّا لا غنى عنه فى بناء الإنسان فى الجمهورية الجديدة. ومن هنا، حيث يُعد الخطاب الدينى أحد أعمدة الثقافة اليومية المصرية، تأتى أهمية التجديد الفقهى ليُناسب العصر، وبما يتفق مع طبيعة الحياة المتسارعة الباحثة عن الميزان الدينى لكل جديد فى نواحى المعاملات اليومية بين الناس فى الواقع المعيش، أو بينهم وبين الآلة فى الواقع الافتراضي؛ وهو ما يستدعى ملاحقة مستمرة لما هو كائن وما قد يكون على طريقة الفقه المستقبلى وافتراض المسائل التى سبق بها الإمام أبو حنيفة عصره والعصور اللاحقة عليه؛ وكل هذا يحتاج إلى جهود عميقة مضنية، بعيدًا عن الشكلانية الفارغة التى أضحت سمة بارزة فى معظم علاقتنا بأمور العبادات بعدما أخرجناها من مضمونها الروحى الفاعل؛ ومن ثم نذهب إلى الصلاة كالممسوسين نؤدى واجبًا شكليًّا خاليًا من الروح الجماعية والانبثاقات العقلية التى حرص الإسلام على إذكائها من خلال هذا التجميع اليومى فى صلاة الجماعة أو التجميع الأسبوعى فى صلاة الجمعة، أو التجميع السنوى فى العيدين. فى جناح الأزهر الشريف بمعرض القاهرة الدولى للكتاب تبدو الصورة مُشرقة والأجواء مُبهجة؛ الفعاليات متنوعة بتنظيم رائع وكتب لامعة الأغلفة؛ واستقبال القائمين على الجناح يبث أطنانًا من الودّ والترحاب؛ حيث الأطفال يرسمون البراءة الكاملة على الورق، والخطاطون ينقشون الحرف العربى العريق بأحبار القلوب؛ والابتسامات الزاهية بين المفتى الحالى د. نظير عياد، والمفتى الأسبق د. على جمعة، والفنان محمد صبحى، تملأ الأجواء بالود والبهجة، وتقول إن هذا النسيج الثقافى الوطنى عصيّ على الاختراق والنبش.. ولكن! فى اللقاءات العابرة والندوات السريعة لا يُمكن أن نبحث عن المشروع القومى الذى قد يُصبح المنهج للأجيال الجديدة، ولا عن بوصلة الطريق التى تقود خُطانا إلى انبثاقة النور المعرفى المرتكز إلى أصالتنا المعرفية وتاريخنا الإبداعي؛ إذ إننا فى حاجة ماسّة فى هذه الأوقات الملتهبة إلى التركيز على أفكار تحديث الخطاب المعرفى الدينى ليتفق من اللحظة المستقبلية وليس فقط اللحظة الحالية؛ والحقيقة أن الأزهر الشريف يبذل جهودًا كبيرة فى هذا المجال؛ ولكنها تظل غير كافية إن لم تشتبك فى أهداف واحدة مع الثقافة والتربية والتعليم والجامعات وخطباء الأوقاف؛ إذ لم تعد قضية النظر فى الخطاب الدينى معلقة فى رقبة المؤسسات الدينية فقط بقدر ما أصبحت ضرورة لمشاركة باقى المؤسسات العلمية والتربوية التى تعالج معظم قضايا تجديد الخطاب الدينى وتقدم حلولًا عملية للمشكلات المثارة فى محاولة التوفيق بين فهم النصوص الشرعية واستيعاب الأعراف الاجتماعية ومواكبة التطور الحضارى والمتغيرات المتسارعة التى تطرح أسئلة وتحديات متجددة بصورةٍ آليةٍ. التأسيس لخطاب دينى جديد ينطلق من ثوابت العقيدة وقيمها ومن أصول الشريعة وضوابطها ليعيد قراءة التراث فى ضوء المستجدات الاجتماعية والتطورات العلمية والفكرية، ليس أمرًا عصيًّا على التحقق السريع إن عملنا على تجديد لغة الخطاب لتلائم المستمع بقدراته الثقافية المتنوعة، ووضع ضوابط متزنة وحدود واضحة بين الثابت والمتغير، وبين الحرية فى الاجتهاد ودعوى الانفصال عن الدين بحجة التطور. علينا التعلم أن الحكم على الخطابات الدينية، سواء أكانت قديمة أم معاصرة، ليس بذلك التحديد الصارم الذى نعرفه؛ وأن الخروج من هذا التحديد إلى التنوع سيكون له دور كبير فى نزع بعض الأفكار الراسخة فى مخايلنا دون مساءلة واجبة ونقد بنّاء؛ وهو ما يجب أن نقوم به الآن، وبشكلٍ عاجلٍ.