تتطور الأحداث في المنطقة بسرعة يصعب اللحاق بها.. وتستمر الأزمات في فرز الوجوه والمواقف وكشف الحقائق، وفي الحقيقة أنه لم نكد نلتقط أنفاسنا بعد دخول وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ حتى تكشف ما كان وراءه. ◄ من هم «شباب التلال»؟ ولماذا الضفة ليست غزة؟ انتابت منطقتنا موجة من السعادة والاستبشار بعد انقشاع كابوس العدوان وتوقف آلة القتل الإسرائيلية عن الفتك بأبرياء غزة. هذه السعادة غلبت آلام القهر والفقد عند أهالى القطاع أنفسهم، ليشعروا وكأنهم ولدوا من جديد.. وعكست الصور الواردة من البقعة المنكوبة ضحكات وزغاريد ودموع سعادة، شعر بها الأبرياء العزل بعدما نكلت بهم إسرائيل فى مهرجان لسفك الدماء أدارته دون هوادة لمدة 15 شهرا. لكن اليقين بأن ترامب ليس «المخلص».. كان يعزز التكهنات بوجود توافق بينه وبين إسرائيل على طول الخط، ورغم أن وقف الحرب لم يكن ما يريده رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو وحلفاؤه من أئمة اليمين المنفلت، لكن ما حدث بعد ذلك كان يصب مرة أخرى فى صالحهم. وفي اليوم الذى دخلت فيه الهدنة في غزة حيز التنفيذ، انطلقت إسرائيل في حملة عسكرية بالضفة الغربيةالمحتلة، بدأت فيها بجنين، ومع التنكيل والاعتقالات والمداهمات وهدم المنازل وتجريف الطرقات، تكشفت نوايا الاحتلال من حملة جنين. فالاحتلال يريد زعزعة استقرار السكان فى الضفة.. لايريد أحد من الفلسطينيين أن يشعر بأنه فى مأمن مما حدث فى غزة.. يريد الاحتلال أن ينقل ما فعله فى غزة، بشكل تدريجى وحتى من دون ذرائع، إلى الضفة، وبالتوازى مع حملة العدوان على الضفة، عاد ترامب مرة أخرى ليشكك فى صمود الهدنة فى غزة. واستخدم الرئيس الأمريكي لغة وخطابا تخلى فيهما تماما عن التزامه السابق بوقف الحرب كما تعهد خلال حملته الانتخابية. وقال ترامب نصا «إنها حربهم.. ليست حربنا»، «لقد وصلوا لاتفاق لأنهم كانوا ملتزمين بموعد محدد وضع لهم.. لكن المرحلة التالية من المفاوضات صعبة».. وبالتالى فقد حرر ترامب نفسه من التزامه بوقف الحرب. حتى أن صحيفة نيويورك تايمز دعته فى افتتاحية لها قائلة «أنت من طلبت الصفقة. ويجب أن تحافظ عليها». وبافتراض أن ترامب ليس «المخلص» إلا لإسرائيل، فلا يجب أن ينتظر منه إلا مزيد من الدعم والتخطيط لتحقيق أمنياتهم. وبهذا الافتراض، فهل يمكن تصور أن ترامب يريد بعدوان الضفة وتهديده بعودة العدوان لغزة - ابتزاز دول المنطقة لتقديم تنازلات؟ وأيهما أدق: هل غض الطرف من العرب عن الضفة ثمنا لحل فى غزة أم قطاع غزة سيكون الثمن لوقف العدوان على الضفة؟ ◄ ليست غزة مع حملات التنكيل الإسرائيلى فى الضفة والتهديدات الواردة من تل أبيب بين وقت وآخر بتكرار سيناريو غزة فى الضفة، إلا أن الحالتين لا يمكن أن تنطبقا. فالضفة ليست غزة.. وأهل الضفة ليسوا مثل أهل غزة.. وأول من يعرف ذلك هم الإسرائيليون، فمن ناحية، لن تستطيع إسرائيل أن تستخدم سلاحها الجوى فى الضفة، هذا السلاح المسئول عن إحداث دمار واسع النطاق واسقاط عدد كبير من الشهداء فى غزة.. أما السبب فهو تقارب المناطق السكنية للفلسطينيين وللمستوطنين، وهو بالمناسبة كان أحد أسباب عرقلة إسرائيل تقليديا لقيام دولة فلسطينية، وهو تداخل وتشابك وقرب المناطق السكنية للفلسطينيين وللمستوطنين، فإسرائيل كانت تهد المنازل وتصادر الحدائق والأحياء لبناء استيطان سرطانى يمتد بين مناطق الفلسطينيين.. ومن ثم فلن يمكنها التعامل مع منازل الفلسطينيين بالقصف لكن بالهدم الذى يستغرق وقتا ومجهودا وأدوات أثقل من قذيفة طائرة تطير فى سماء غزة. أما السبب الآخر فهو حركة السكان فى النزوح.. فقد كان أهالى غزة يتحركون فى اتجاهات مختلفة وبشكل عشوائى مع تكرار دعوات النزوح من منطقة لأخرى، دون أن تكترث لهم إسرائيل.. لكن حركة نزوح كثيفة لأهالى الضفة داخل محيط المكان بالتأكيد تقلق تل أبيب على مستوطنيها. فالاحتلال رغم تجبره، إلا أنه يخشى استفزاز جموع أهالى الضفة وقت تكتلهم.. والدليل على ذلك هو منع الاحتلال وجود المستوطنين فى نطاق المسجد الأقصى حيث جموع المصلين فى العشر الأواخر من شهر رمضان كل عام، وذلك حتى لا تحدث اشتباكات لن تحمد إسرائيل عقباها.. أما المشاهد المتكررة فى الشهر الكريم من حيث تصدى المحتلين للاعتكاف داخل المسجد الأقصى، فلا تنفى جبن الاحتلال وعدم جرأته على منع حشود الآلاف من المصلين من التوجه للمسجد الأقصى، وجل ما يستطيع فعله هو التحكم بالمراحل العمرية المسموح له بالمرور إلى هناك. وبالتالى، فالاحتلال لا يمكنه واقعيا السيطرة على حركة الحشود الفلسطينية ولن يمكنه آنذاك حماية المستوطنين منهم. وربما كان هذا هو السبب وراء قيام وزير الأمن الداخلى المستقيل إيتمار بن غفير بتسليح المستوطنين وتوزيع آلات القتل عليهم دون حساب ودون أى اعتبار، وذلك من باب أنهم هم الذين سيتولون التصدى المباشر فى مرحلة ما للفلسطينيين. وحتى اطمئنان الاحتلال لهذا السيناريو الذى سيواجه فيه المستوطنون انتفاضة ثالثة، فإن إسرائيل لا تعجل بتحريك حشود نازحين داخل مدن الضفة.. وتقصر بالتالى عدوانها على منطقة بعينها الآن وهى جنين. ربما ترغب إسرائيل، كما سلف، فى بدء زعزعة استقرار الفلسطينيين فى الضفة، وبدء تحريك الماء الراكد بالنسبة إليها، لكنها تخاطر بانفجار الوضع واندلاع انتفاضة ثالثة من أهالى الضفة.. وهنا نعود لأحد أهم الفروق بين الضفة وغزة. فعموم أهالى غزة فى الغالب، لاسيما المقيموين فى القطاع منذ فترة طويلة، لم يشتبكوا مع القوات الإسرائيلية منذ عشرين عاما، ولم يحتكوا بهم منذ ذلك الوقت، بعكس أهالى الضفة المعتادين على الانتهاكات والتضييقات اليومية والتفتيش الروتينى فى عدد ضخم من نقاط التفتيش والمراقبة التى تحاصر مناطق سكنهم.. كما اشتبك منهم كثيرون مع قوات الاحتلال إما فى مسيرات أو مظاهرات أو خلال عمليات مداهمة للاحتلال فى مناطق سكنهم.. وبالفعل، لدى كثيرين من هؤلاء شغف الانتقام وبذور الانتفاضة، ومن أبسط مظاهرها الهجمات التى تنفذ على مستوطنين سواء بحوادث طعن أو دهس أو تفجير لعبوات ناسفة.. وهو بالتحديد ما تخشاه إسرائيل، وبناء على ذلك، فإن إسرائيل يجب أن تتوقع سيناريو آخر من الأحداث فى الضفة.. سواء فى ممارساتها أو فى رد الفعل على هذه الممارسات. ◄ اللعب بالنار ووسط التصعيد فى الضفة من جانب جيش الاحتلال، يجد المستوطنون المتطرفون مساحة آمنة للتعدى والهجوم على الأهالى العزل وذلك وسط تحذيرات من اندلاع شرارة الغضب قريبا فى المدن الفلسطينية، وقال تحليل نشره معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى فى وقت سابق إن الجمع بين المتطرفين من المستوطنين والسياسيين اليمينيين المتشددين الداعمين لهم فى إسرائيل، والإجراءات الأمنية المحلية، قد يؤدى إلى إشعال انتفاضة واسعة النطاق إذا استمرت السلطات الإسرائيلية فى سياساتها هناك. ووثقت القنوات الإعلامية التقليدية وشبكات التواصل الاجتماعى بمقاطع فيديو قيام متطرفين يهود من المستوطنين بمهاجمة السكان الفلسطينيين وحرق المنازل والسيارات، وتخريب الأعمال التجارية، وتدمير المحاصيل، وتهديد السكان المحليين بالأسلحة، وفرض قيود على الحركة، والتعدى على المنازل والأراضى والموارد الطبيعية. ووفقاً ل «مكتب الأممالمتحدة لتنسيق الشئون الإنسانية»، ازدادت أعمال العنف التى يرتكبها المتطرفون اليهود إلى ما معدله سبعة أعمال يومياً بعد 7 أكتوبر، مقارنةً بثلاثة يومياً فى الشهر الذى سبق، ولم تشكك السلطات الإسرائيلية فى هذه الأرقام. ◄ تغييرات واسعة لكن الجيل الحالي من المتطرفين يختلف من نواحٍ متعددة. فقد أحدث «فك الارتباط عن غزة» (كما يطلق فى إسرائيل على إنهاء احتلال القطاع) فى عام 2005 تغييرات واسعة النطاق فى القطاع الديني في إسرائيل، إذ اعتبر اليمين المتطرف أن هذه الخطوة هى أزمة كبرى ونقطة تحول فى موقفهم تجاه الدولة على حد سواء. ومنذ ذلك الحين، أصبحت الضفة الغربية تُشكل مصدر جذب للشباب اليمينيين المتطرفين الذين يحرصون على المساهمة فى استيطان «أرض إسرائيل» وتقليص الوجود الفلسطينى فيما يعتبرونه الوطن اليهودي. ويتسرب العديد منهم من نظام التعليم، وينفصلون عن عائلاتهم، ويتركون منازلهم فى إسرائيل، وينتقلون إلى الضفة الغربية. وهناك، يميلون إلى إقامة بؤر استيطانية غير قانونية ويعتبرون سيادة القانون الإسرائيلى بمثابة توصية وليس مطلباً. وعادة ما يتم تمويل أنشطتهم من قبل المنظمات غير الحكومية الإسرائيلية التى تدعو إلى استيطان «أرض إسرائيل» بأكملها. ◄ ليس بأمر ترامب ستبقى الأيام وحدها شاهدة على الحقائق.. وكاشفة لمعادن الشعوب.. لكن من قبل الانتظار، فقد تبين كيف كانت ولا تزال الولاياتالمتحدة شريكة فى قتل الفلسطينيين.. وترامب الذى يتلاعب بالمنطقة بتصريحات منفلتة ويظن أنه هو من بيده وقف او استئناف العدوان بحق الأبرياء العزل فى فلسطين، لم يمكنه نفسه حتى الآن التحكم فى مسار الحرب المتورطة فيها بلاده بشكل غير مباشر فى شرق أوروبا.. وأن ما حسبه صراعا يمكن حله فى 24 ساعة، تكشف الآن أنه أعقد مما يتخيل.. فلا يظن أن الصراع فى الشرق الأوسط هو أبسط من ذلك بأى حال من الأحوال.