أظهرت كاميرات المخرجين في السينما المصرية الكثير من اللقطات التي كانت تظهر مقدار السوء التي كانت عليه السجون المصرية من قبل، سواء في البنية التحتية، أو في الخدمات المقدمة ودورات المياه والمطبخ وسبل تقديم الطعام، وكلها أمور رصدت في الكثير من المرات، لكن هذه المناظر قد ولت إلى غير رجعة، حينما تحول السجن من كونه مكانًا يعاقب فيه المجرم على ما اقترفت يداه، إلى مكان مهيأ إلى إصلاحه وتأهيله، ليعود مرة أخرى نافعًا ولا يعود إلى ما أقدم عليه من قبل، وهذا نهج قد انتهجته الدولة المصرية منذ حوالي 5 سنوات، لتكون الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان قولا وفعلًا، والتي أسست على رؤية واضحة تهدف إلى النهوض بكافة حقوق الإنسان، من خلال تعزيز احترام وحماية كافة الحقوق المدنية، والسياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية.. تفاصيل أكثر عن أعمال تطوير السجون وتحويلها إلى مراكز للإصلاح والتأهيل في السطور التالية. الانطلاقة الحقيقية كانت في أواخر عام 2021، أي قبل نحو 4 سنوات من الآن، عندما افتتحت الدولة مركز وادي النطرون للإصلاح والتأهيل، والذي وحده عوض الدولة عن ما يقارب من 25% من إجمالي السجون في أنحاء الجمهورية، ويُعد مركز الإصلاح والتأهيل في وادي النطرون هو الأكبر على مستوى العالم، وبعده افتتح مركز بدر للإصلاح والتأهيل، والذي أصبح ثاني مركز للإصلاح والتأهيل، وضم نزلاء من ثلاثة سجون. تخيل أن هذا العام، 2021، عندما افتتحت مصر مركزين للإصلاح والتأهيل، وكانت النواة الحقيقية لبدء إنشاء هذه النوعية من المراكز الإصلاحية التأهيلية بديلا عن السجون بمعناها التقليدي والمتعارف عليه، تم الاستغناء تمامًا عن 45 سجنًا من السجون المعروفة، لعل أبرزهم سجني العقرب وطرة. من وقتها رفعت وزارة الداخلية شعارًا جديدًا، مفهومه، أن «مراكز الإصلاح»هي «الوجه الآخر للسجون»، أو بالأحرى، الوجه الآدمي، والذي أحدث تطورًا في مفهوم السياسة العقابية، واعتمد اعتمادًا كليًا على الارتقاء بالنزيل، واحترام آدميته، ومن أهم أشكال هذا الارتقاء واحترام آدمية النزيل، التأكيد على أن تكون إقامته في مكان شيد خصيصًا لإصلاحه وإعادة تأهيله مرة أخرى، وحتى يكون النزيل مواطنًا صالحًا في المجتمع عقب قضاء العقوبة. فلسفة العقاب أدى التأهيل النفسي للنزلاء، لزيادة الرغبة لديهم لتحسين أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، من خلال تعليمهم وتدريبهم على الحرف المختلفة وتنمية قدراتهم، لتنمية شعور القدرة على التعايش بداخلهم، وهو ما يمكنهم من الحصول على فرص عمل، عقب تنفيذ العقوبة وخروجهم للاندماج في المجتمع مرة أخرى. حتى أن النزلاء، المصطلح الذي بدأ استخدامه مع التحول لمراكز الإصلاح والتأهيل، بديلا عن لفظ السجناء، أصبح هو المتداول، قولا وفعلاً، لأنه في الأول والأخير بات نزيلا له كافة الحقوق الواجبة، بعيدًا عن كونه معاقب، أما عن الشق التعليمي والتثقيفي، فهو محور حياة النزلاء داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، حتى أنه يتم قيد النزلاء الراغبين في استكمال المراحل التعليمية المختلفة، وإلحاقهم بجميع مراحل التعليم، وتشكيل لجان للامتحانات داخل مراكز الإصلاح والتأهيل، لتأدية الامتحانات المقررة عليهم. كل هذا كوم والفلسفة الأكبر التي تقوم عليها مراكز الإصلاح والتأهيل كوم آخر؛ فهي تمثل مرحلة جديدة وأكبر بكثير من مفهوم الثواب والعقاب، بل الهدف الأهم والأبرز هو إعادة بناء الإنسان، حتى يستطيع أن يندمج بسهولة في المجتمع مرة أخرى، بعد قضاء فترة إقامته في مراكز الإصلاح والتأهيل. المواقع الشرطية المختلفة، وفي القلب منها مراكز الإصلاح والتأهيل، راعت بكل السبل العلمية والأدبية، فكرة أن للنزيل حقوق واجبة، لذلك أعلت من مفهوم حقوق الإنسان، بالشكل الذي معه أصبح ضرورة من ضرورات العمل الأمني، لذلك أولت اهتمامًا بالغًا بأماكن الاحتجاز وطورتها، كأحد الأولويات الجوهرية لمنظومة التنفيذ العقابي، ووفقًا لثوابت الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، التي أطلقها الرئيس عبد الفتاح السيسي. ولم تقف يد التطوير والتأهيل في مراكز الإصلاح والتأهيل عند مركزي وادي النطرون وبدر فقط، بل واصلت الدولة التوسع في هذه المراكز في أغلب الأقاليم، لتكون عوضًا عن السجون بمفهومها التقليدي، وهو ما قامت به بالفعل في النصف الأول من عام 2023، عندما افتتحت 3 مراكز للإصلاح والتأهيل دفعة واحدة، بعيدًا عن الكتلة السكنية، وهم مراكز الإصلاح والتأهيل بالعاشر من رمضان بمحافظة الشرقية، ومركز إصلاح وتأهيل أخميم الجديدة بمحافظة سوهاج، ومركز إصلاح وتأهيل 15 مايو بمحافظة القاهرة. هذه المراكز، استطاعت أن تحل كبديل لعدد من السجون على مستوى الجمهورية، وتنضم إلى مراكز الإصلاح التي تم افتتاحها خلال الفترة الماضية، وهي مركز الإصلاح والتأهيل في وادي النطرون، ومركز الإصلاح والتأهيل ببدر. خطط وبرامج تختلف مراكز الإصلاح والتأهيل كليًا عن السجون المتعارف عليه، سواءً من ناحية ما تقدمه لنزلائها، أو من ناحية التصميمات الداخلية لهذه المراكز، والتي تم العمل عليها وتنفيذها وفقا لأسلوب علمي وتكنولوجي متطور، استخدم خلالها أحدث الوسائل الإلكترونية، حتى أنه تم الاستعانة في مراحل الإنشاء والتجهيز واعتماد برامج الإصلاح والتأهيل، على أحدث الدراسات التي شارك فيها متخصصون في كافة المجالات ذات الصلة، للتعامل مع المحتجزين وتأهيلهم؛ لتمكينهم من الاندماج الإيجابي في المجتمع عقب قضائهم فترة العقوبة. هذه الفلسفة الآدمية، تجلت أكثر عندما أصبحت مراكز الإصلاح والتأهيل الجديدة التي شيدتها وزارة الداخلية، نموذجاً متميزًا للمؤسسات العقابية والإصلاحية على المستويين الإقليمي والدولي، وهو الأمر الذي عكس آفاق التطوير والتحديث والعصرية؛ حيث أن الاستراتيجية الأمنية في إدارة المؤسسات العقابية والإصلاحية، ترتكز على محاور الفلسفة العقابية الحديثة، التي تقوم على تحويل أماكن الاحتجاز التقليدية، إلى أماكن نموذجية، لإعادة تأهيل النزلاء من منطلق أحقية المحكوم عليهم بألا يعاقبوا على جرمهم مرتين، حتى لا تتوقف الحياة بهم وبأسرهم عند ذنب اقترفوه، بما يعد ترجمة واقعية للاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، والتي أطلقت من ضمن الخطط التي اعتمدت في مراكز الإصلاح والتأهيل هي خطط إعادة التأهيل المطبقة بتلك المراكز العصرية، من ضمنها إنشاء برامج متكاملة، شارك في إعدادها عدد من المتخصصين في مختلف مجالات العلوم الاجتماعية والصحة النفسية، وتشمل الاهتمام بالتعليم وتصحيح المفاهيم والأفكار، وضبط السلوكيات، وتعميق القيم والأخلاقيات، وصولا لتحصين النزيل من الانحراف مرة أخرى، وحماية مجتمعه من أية خطورة إجرامية محتملة كانت تسيطر على سلوكه. من ضمن وأهم هذه البرامج برامج الرعاية الاجتماعية، والتي لا تقتصر فقط على النزلاء، لكنها تمتد لأسرهم أثناء فترة عقوبتهم؛ وذلك من خلال إدارة الرعاية اللاحقة، وهذه الإدارة منوط بها متابعة حالات المحكوم عليهم عقب الإفراج عنهم، للتأكد من إمكانية عدم عودتهم مرة أخرى إلى ما كانوا عليه، ولتحقيق الهدف الذي من أجله أنُشئت هذه المراكز. وهنا، وفي هذه الجزئية تحديدًا، حرصت وزارة الداخلية، على توفير مقومات إعادة تأهيل النزلاء، واتخاذ كافة الإجراءات التنسيقية مع الوزارات المعنية، ومن بينها إبرام بروتوكول تعاون مع وزارة التربية والتعليم والتعليم الفني، يتم بمقتضاه تشغيل المدارس الثانوي «الصناعي والزراعي» بمراكز الإصلاح والتأهيل، وكذا التنسيق مع وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، لإعداد أماكن للتدريب والتأهيل على المهن الفنية المختلفة؛ وذلك في إطار برامج علمية قائمة على توجيه طاقة النزيل للمهنة التي يصلح لها، وإتاحة فرص عمل له أثناء فترة العقوبة، بما يعود عليه وعلى أسرته بعائد مالي، يوجه وفقا لاحتياجاته، والاحتفاظ بجزء منه كمكافأة تمنح للنزيل عند خروجه، تساعده على مواجهة متطلباته المعيشية. استثمار الجزئية المتعلقة بإعادة تأهيل النزلاء عمليًا، حتى تساعدهم على مواجهة متطلباتهم المعيشية، أصبحت مراكز الإصلاح والتأهيل تقيم عددًا من المشروعات الإنتاجية الصناعية والزراعية والحيوانية بداخلها، يقوم على العمل بهذه المشروعات النزلاء أنفسهم، وهو الأمر الذي بات ينعكس إيجابيا أيضا على حجم الإنفاق التي تتحمله الدولة في إدارة مراكز الإصلاح ورعاية النزلاء؛ وذلك عبر تحقيق الاكتفاء الذاتي في احتياجاتها من بعض المنتجات الأساسية، فضلا عن الإسهام في تلبية احتياجات المواطنين بأسعار مخفضة في ظل دور وزارة الداخلية التكافلي. الأمر الآخر، أن نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل، ليسوا في عزلة عن العالم الخارجي، من خلال متابعة نشرة الأخبار، ومراعاة غير مسبوقة لحقوق الإنسان، بالإضافة إلى منحهم رواتب نظير الأعمال التي يقومون بها داخل المراكز. الأمر اللافت للنظر، أن هذا التطوير في مراكز الإصلاح والتأهيل، والتوسع في بنائها في مختلف محافظات الجمهورية، لم يكلف الدولة أي أعباء مالية، لأن الأمر تم دراسته وفق أكثر من محدد هدفه تقليل اعتماد هذه المراكز على ميزانية الدولة بشكل كبير، مثل أن تكون هذه المراكز خارج الكتلة السكنية، كبديل للسجون العمومية، وهو ما أدى إلى إغلاق عشرات السجون العمومية، وبالتالي عدم تحمل الموازنة العامة للدولة أية أعباء لإنشاء وإدارة تلك المراكز، في ضوء أن القيمة الاستثمارية لمواقع السجون العمومية التي تم ويتم غلقها، تفوق تكلفة إنشاء تلك المراكز التي يتم إنشائها بكثير، ولأن موقف السجون القديمة، وفقًا لخطة التطوير التي اتبعتها الدولة، الاستغناء عن 45 منطقة سجون قديمة بمراكز إصلاح وتأهيل جديدة، التي يتم توزيعها جغرافيًا على مستوى الجمهورية، بناءً عن معايير تخطيطية تراعي الامتدادات المستقبلية للمدن الجديدة، وبالفعل تم تشغيل وتنفيذ المرحلة الأولى من الخطة والتي تضمنت تشغيل مركزي الإصلاح والتأهيل وادي النطرون وبدر، حيث استغرق تنفيذهما 11 شهرًا من تاريخ التكليف، وتضم المرحلة الحالية مراكز للإصلاح والتأهيل بمدينة العاشر من رمضان بالشرقية، ومدينة أخميم بسوهاج، ومدينة 15 مايو بالقاهرة، ونفذت خلال عام تقريبًا، والانتهاء منهم تمامًا في النصف الأول من 2023. حياة جديدة ولم تغفل وزارة الداخلية في إطار جهودها لتطوير الفلسفة العقابية برمتها، وترسيخا لقيم ومبادئ حقوق الإنسان، على تعديل المصطلحات والمسميات، حتى تتوافق مع واقع سياسات التنفيذ العقابي الحديث؛ حيث قدمت الوزارة مشروع قانون لتعديل بعض أحكام قانون السجون والقوانين ذات الصلة، لتحويل السجون إلى مراكز الإصلاح والتأهيل المجتمعي، وتعديل مسمى قطاع السجون، ليصبح «قطاع الحماية المجتمعية»، معبرًا عن التطور النوعي الذي يتم حاليا في آليات عمل القطاع. وشملت تعديلات قانون تنظيم السجون في مصر، الصادر في مارس 2022، حزمة واسعة من التطوير الشامل لمنظومة السجون، ومن بينه تغيير مسمى السجون الوارد في القانون القديم، إلى مراكز إصلاح وتأهيل عمومية، أو مراكز إصلاح جغرافية، أو مراكز إصلاح وتأهيل خاصة، وكذلك تغيير اسم السجناء إلى نزلاء، ومأموري السجون إلى مديري مراكز تأهيل، وقطاع السجون إلى قطاع الرعاية الاجتماعية. هذا التطوير ما كان ليتم بهذا الشكل إلا لأن الدولة وضعت في اعتبارها قيمة الإنسان بصرف النظر عن ما قام به، خاصة وأن هذه الجزئية تحديدًا تعد من أهم الأمور التي تم مراعتها في تصميم وإنشاء هذه المراكز، صحيح أن النزلاء اخطأوا، ومنهم من ارتكاب جرائم صعبة، في حق المواطنين وفي حق الوطن، لكنهم في حقيقة الأمر، بشر مثلما يتم عقابهم على ما اقترفت يداهم، لهم حقوق واجبة، ومن أهمها أن يتم تقوميهم بالشكل الذي يضمن عدم عودتهم إلى ما كانوا عليه، وهي الفلسفة الأهم والأشمل، والتي من ورائهما يمكن القول أن نزلاء مراكز الإصلاح والتأهيل عندما يخرجون، كأنهم ولدوا من جديد، ودخلوا حياة جديدة، حياة أسمى معانيها التسامح والفرصة الثانية. اقرأ أيضا: بمناسبة عيد الشرطة 73.. الإفراج عن 4466 نزيلًا ب«عفو رئاسي»| صور