الناس فى هذه الحياة ثلاثة أنواع: الأول يمضى عمره دون أن يترك شيئًا يُذكر به، والثانى يقتصر تأثيره على عدد محدود ممن يحيطون به، فينقضى أثره سريعًا، والثالث سيرته أطول من عمره، لا ينتهى ذكره برحيله، بل يبقى أثره أطول وأعمق كثيرًا من سنوات عمره. والأستاذ ياسر رزق من تلك الفئة الثالثة، لا يحتاج إلى ألقابٍ للتعريف به، ولا يتطلب الأمر سرد معلومات عن حياته لكى نستدعى طيفه الطيب، فأثره أطيب من أن يحتاج إلى تذكيرٍ، فهو جزء يومى من نسيج الحياة فى جريدته التى منحها جُل عمره، وسيرته ستبقى أطول من سنوات عمره ال 57 التى قضى ما يزيد على نصفها فى رحاب دار «أخبار اليوم»، التى كان هو نفسه امتدادًا لأحد أعلامها الكبار، وهو والده الكاتب الصحفى وصاحب الأعمال الوطنية الخالدة الأستاذ فتحى رزق. فى ذكرى رحيله الثالثة لا نحتاج إلى من يذكّرنا بالأستاذ ياسر، الاستثنائى فى كل شىء، فى شغفه بالمهنة، فى احتراقه اليومى من أجل أن يُقدم عملًا مميزًا لا يُشبه أحدًا، فى روحه السمحة التى لم تكن تتأثر بموجات انفعاله الجارف خصوصًا عندما يتعلق الأمر بالعمل.لا يكاد يخلو شبر واحد فى دار «أخبار اليوم» من ذكرى له، وللجميع معه ذكريات لا تُنسى، عرفته فى أيامى الأولى بجريدة «الأخبار»، كان وقتها رئيسًا للقسم العسكرى ومندوبًا برئاسة الجمهورية، وعضوًا كذلك بمجلس نقابة الصحفيين. عندما يظهر فى أروقة الدور السابع بالمبنى الصحفى حيث مكتبه المواجه لقسم التحقيقات الذى به بدأت، لم يكن يكف عن الحركة، يقطع الطرقات جيئةً وذهابًا وهو يتحدث فى هاتفه المحمول الذى لا يكف عن الرنين، مكتبه لا يخلو من زوار أو أصدقاء، كوب الشاى والسيجارة لا يفارقان يده. وفى صالة التحرير عندما يمسك بيده اليسرى قلمه الأسود، ويميل برأسه وجذعه ليكتب عنوانًا على صفحات «الدشت»، تشعر أن بينه وبين الورقة والقلم قصة حب، وأنه لا يكتب مجرد كلمات فى خبر أو مقال، بل يبث الأوراق عشقًا أبديًا لا يتجلى إلا فى لحظات صمت انتقال الحروف من عقله وقلبه إلى وجه الصفحات. شاء القدر بعد سنوات أن أخلفه فى تغطية شئون رئاسة الجمهورية، فوجدت أن أثره يتجاوز جدران «الأخبار»، ينتشر كعبق طيب يفوح حتى بعد مغادرة صاحبه للمكان، واليوم وأنا أجلس على المقعد الذى كان يشغله فى رئاسة التحرير، أستشعر روحه وحضوره من حولى، فهكذا كان الأستاذ ياسر رزق وسيظل، استثنائيًا وأبديًا فى حضوره، حتى وإن غاب.